فأما الشاعرة القادمة من وادي عبقر المعاصر، فهي الشاعرة الشابة ، صفية الدغيم ، وقد نشرت عام 2022 مجموعتها الشعرية الثانية بعنوان ( في غيابة الجب ) وقد تشرفت بأن أكتب مقدمة لهذه المجموعة قلت فيها :
* أقرأ كثيراً مما يكتب الشباب من شعر على صفحات التواصل التي أتاحت لنا معرفة أجيال تتابع أجمل ما أبدع العرب من فنون ، فالشعر موهبتهم الفذة و قد وهبهم الله اللسان والبيان ، وكنت أفاجأ باستعادة جيل من الشباب والشابات قيم الشعر العربي الأصيل ، والتمسك بأوزان الشعر وقوافيه ، بعد أن خرجت أجيال سابقة منذ ستينيات القرن العشرين إلى فضاءات ما سمي بالقصيدة النثرية ، وبعد أن تخفف الشعر العربي الحديث عقوداً من سطوة الخليل بن أحمد ، ومن أسر القوافي ، فبات أي كلام يمكن أن يسميه صاحبه قصيدة نثرية ، وقد غصت الساحة بشعراء يملؤون دواوينهم بالفواصل والنقاط ، فلم يبرز منهم إلا عدد قليل ممن أثبتوا قدرتهم على بناء قصيدة حداثية متينة يضوع فوح الشعر منها ، لكن الشعراء المتمكنين من المحدثين كانوا يحرصون على المزج بين ما تقتضيه الحداثة وبين أهم أركان الشعر الأصيل وهو الإيقاع الشعري الموسيقي ، مدركين أن الفارق الأهم بين الشعر والنثر هو ذات الفارق بين الرقص والمشي ، وعلى مدى خمسين عاماً ودعت الأمة شعراءها الكبار من جيل البدوي وأبي ريشه ونزار ، ولم يظهر شاعر قادر على ترسيخ مكانة الحداثة في الشعر إلا عدد قليل من جيل محمود درويش وبعض ومضات تضيء ساطعة حيناً وخافتة على الأغلب ، وبت ألاحظ كثرة من الشاعرات والشعراء الشباب يؤسسون الروابط الشعرية والمنتديات الأدبية في الشبكة العنكبوتية ، ويستعيدون قواعد القصيدة الأصيلة ، وبدا بعضهم بارعين في تأصيل الشعر العربي من جديد ، لكني كنت ألحظ بينهم سطوة النظم على الإبداع الشعري في الكثرة المطلقة ، فأبحث عن الشاعرية المتفردة في الموهبة ، حتى وجدتها عند ( صفية دغيم ) التي تألقت قصائدها بتمكن مدهش وهي تغرف من بحر الموهبة الصافية ، والثقافة الشعرية الناضجة ، وأحسب أن صفية تمثل جيلاً جديداً من المبدعين والمبدعات في تأصيل القصيدة العربية الجديدة التي ستشق طريقها إلى استعادة الأصالة دون صراع مع الحداثة التي أضاعت طريقها في زحام الفوضى التي تكاد تعم حياتنا العربية كلها ، حين أصرت على هدم كل التقاليد وعلى قطع كل صلة لنا بتراثنا الثري .
وأحسب أن صفية وجدت نفسها شاعرة بالموهبة فهي لا تفتعل البحث عن قافية ولا تزن القصيدة على تفعيلات الخليل التي استقاها من الينبوع الثر من أئمة الشعر العربي ، فهي تصدر عن الشاعرية الأصيلة الموّارة في روحها الشاعرة ، وقد اكتفت صفية بالتعبير عن أحاسيسها فأطلقتها غناء وبكاء وفرحاً وترحاً ، ووجدت نفسها تعبر عن أضخم مأساة إنسانية غير مسبوقة في التاريخ ، وهي هجرة شعب من وطنه وتشرده ولجوئه ونزوحه ومقتل واعتقال الملايين من أبنائه عقاباً لهم لمجرد أنهم طلبوا الحرية والكرامة ، فجاءت قصائد صفية شهقات وآهات ومآسي وفواجع ، حتى بات شعورها بالقهر طاغياً على قصائدها ، وهي تعرّف القهر ببساطة :
(تدرون ما القهر ؟ أن يعلو الطغاة هنا ولا يقال لهم في وجههم كلآ
خمسونَ عاماً، ومِنَّا من مَلامحِنا من عيشِنا المُر ..ظُفرُ القهرِ ما انسَلَّا )
هاجرت صفية مع ملايين المهاجرين السوريين بحثاً عن الأمان ، ولم يكن في حقيبتها غير الأسى والحزن والثورة والغضب ، ولكن مع فيض من القدرة على الحب والعطاء والأمل ، وهي تبرر اضطرارها مع أسرتها للهجرة بقولها :
( وصعب مقامي في بلاد بأرضها يُقتّلُ أحرار وتسبى حرائرُ
وما لي على كتم المواجع حيلة إذا القلب أخفى فالدموع تجاهرُ )
ومئات الآلاف من أبناء شعبنا معتقلون في السجون ، وكثير منهم قتلوا تحت التعذيب :
سَتُغرِّدُ الأقفاصُ ذاتَ قيامةٍ ويموتُ أبكمَ خلفها العصفورُ
هل من خلاصٍ؟ قالَ موتكَ: كيف لا، أبشر فعمرُ الثائرينَ قصيرُ
وكانت الشام أجمل ما تختزنه حقيبة وجدان صفية ، فهي الحب الأبدي والحضور النقي :
هذي الشآمُ وحينَ يَحضرُ ذكرُها ترتدُّ أنفاسٌ وتُبعثُ روحُ
لا شيء غير الموت بعد فراقها مِن كلِّ أوجاعِ الجَوابِ يُريحُ
وتحكي صفية عن التشرد ، وعن نزوح ملايين السورين إلى الخيام هرباً من القتل إلى ما هو أشد منه مرارة في خيام بلا أوتاد ولا سقف لها إلا الغيم ، فأما الديار التي هدمها الطغيان وهاجر أهلها وتشردوا ، فهي مثلنا نحن البشر ، لها أكباد تتفتت ، ومهج تتحرق شوقاً وحزناً على ساكنيها الذين نصبوا على الضلوع خيامهم :
النَّاصِبونَ على الضُّلوعِ خِياما حَملوا الحنينَ وطَيَّروهُ حَماما
الجالسونَ على رصيفِ جِراحهم يتقاسمونَ الوهمَ والأحلاما
نَهشَتهمُ الأوجاعُ حتى أُتخِمَت وَرَمَت بَقاياهم دَماً وعِظاما
يا للمأساة الكبرى التي تقف فيها صفية ناطقة باسم أوجاع أهلها وآلامهم وبؤسهم وحنينهم وآمالهم وأحلامهم ، وقد رحلوا عن ديارهم :
رَحَلوا، ولكنَّ الذي ذاقوهُ في زَمَنِ الطُّغاةِ المُرِّ لا يُتَصَوَّرُ
فهنا يُسَيَّدُ في الرِّجالِ وَضِيعُهُم ويسيلُ نَهرُ دَمٍ لِيَحيا قَيصَرُ
هذه من أهم موضوعات ومضامين قصائد صفية التي تستحق بجدارة أن تكون سيدة الشعر النازف والمتحدثة الشعرية باسم التغريبة السورية الكبرى ، والشاعرة الثائرة التي تغرف من بحار الأسى ، وهي في تدفق قصائدها وبوحها تكاد تنسى أنها امرأة وكثير ممن هنّ في سنها الشاب تأخذهن في الشعر مشاعر الحب وأحاسيس الأنوثة فأما صفية فقد وجدت الحب عطاء صرفاً بلا حدود :
(الحب أن تعطي وتعطي دونما ضجر يُرى، وتظن أنك تبخل )
ولابد أن ندرك أننا أمام شاعرة تحمل القيم العريقة ، في أسرة محافظة ، ولن يجد أحد في شعرها ما يخرج عن هذه القيم السامية ، لكنها بفطرتها الأنثوية تعبر عن مشاعر المرأة المنكوبة بالقهر ، وتدخل إلى أعماق أنوثتها حين تخاطب من تحب :
ما لي على الهجرِ صبرٌ ، فارحم امرأةً جَفَّ المُحيطُ وما جَفَّت مآقيها
فلا تلُمها ولا تعجَب لجُرأتِها إن أتبَعَتْ جُلَّها المُضنى بِباقيها
لبَّيكَ يا روحَ روحي كُلَّما التفَتَت تجيبُ صوتاً خفيَّاً لا يُناديها
فكيفَ للشعرِ إن راحت تسطِّرهُ بعطر ذكركَ ألَّا ينتشي تيها ؟
وما شيء قهر النساء في مأساتنا السورية أشد من الفراق والشوق إلى الزوج والأسرة والأبناء المشردين في أصقاع الأرض ، ولم يعد للأمهات والزوجات والمتيمات غير نهر من الدموع يذرفنه :
يغيبُ، ولكن عن عيونيَ وحدَها فما أقربَ المحبوبَ مني وأَبعَدَا
مشيتُ وجربتُ الدروبَ جميعَها إليهِ فما ألفيتُ درباً معبّدا
أتذكرُ لما قلتَ لي ذاتَ خلوةٍ : أحبكِ حتى الموت؟ قُلها مُجدَّدا
خبرتُ الندى والجودَ في الأرضِ لم أجد مِنَ الحبِّ أندى أو من الحبِّ أجودا
وتبقى أطياف ملايين الشهداء تحوم حول الثكالى والآباء المكلومين ، وتبقى صور الأبناء الذين ودعوا أمهاتهم وعبروا الحدود إلى المجهول أقاصيص تراجيدية فجائعيه تصورها صفية بشاعرية قلب أمّ ، وصفية العربية تعيش أحزان العرب جميعاً :
وأبكي لستُ أدري ما دموعي أماءُ العَينِ أم نزفُ الوريدِ
على هجرِ البنين بلا رجوعٍ ونَوْحِ الأمَّهاتِ على الحُدودِ
على الشَّامِ التي ثكلت بَنيها على اليمنِ اليتيمِ اللا سَعيدِ
على بغدادَ إذ تَرَكَت فُراتاً يُقاطِعُ دجلةً فوقَ الخُدودِ
لِيُرفَعَ في الأذانِ نداءُ روحي أنا ولدُ الشَّهيدِ أبو الشَّهيدِ
ولكون المأساة باتت فوق التصور والتحمل:
( مجانين صرنا ، من يلوم جنوننا ؟ وهل ظل في هذي البسيطة عاقلُ ؟ )
وصفية مثل ملايين المنكوبين تشعر بالضياع وتسأل ذات السؤال الذي بات على كل لسان :
إلى أيِّ المصائرِ سوفَ نمضي؟؟ وحادينا الوحيدُ :(اللاجهاتُ)
فأينَ رفاقُنا في الهَمِّ ؟؟ضَلُّوا وأين حداتُنا في الدَّربِ ؟.ماتوا
وتدرك صفية أن حالة الخذلان التي أصابت السوريين فاقمت فواجعهم ، ولكنهم لا يستسلمون لليأس :
نَهشَتهمُ الأوجاعُ حتى أُتخِمَت وَرَمَت بَقاياهم دَماً وعِظاما
فالمُدَّعون وُقوفَهم في صَفِّنا غدروا وباعونا الوعودَ كلاما
قدَرٌ عجيبٌ يُسقط العُظماءَ في زمنِ العبيدِ ويرفعُ الأقزاما
هيَ فترةٌ تمضي ونرجعُ مثلما كنّا ونفترش الوراءَ أماما
ولا تملك صفية غير وحي الشعر ونبضه :
يُؤمِّرُني البَيانُ عليهِ لكن أحارُ إذا رأيتُكَ ما أقولُ
ولي في نبضِ هذا الشعرِ وحيٌ ولي في كلِّ قافيةٍ رسولُ
ورسالة صفية هي القضية السورية بامتياز ، وقد اهتممت بمضامينها الشعرية ، والحديث يطول فيها لو دخلت في تفاصيل قصائدها ، وينابيعها الشعرية ، وصلتها بالموروث الشعري الأصيل الذي تتابع التدفق في بحره المحيط ، وأدرك أن صفية ما تزال في ريعان شباب قصائدها ، وهي كذلك أسيرة قضيتها ، وهي تنهل من جوف المأساة ومن واقع الحدث الضخم ، وتحكي أحاسيس البسطاء ، وأحسب أن هذا ما أغناها عن إطلاق مخيلتها الشعرية ، وعن الانطلاق في الفضاء الكوني ، وقد اعتمدت اللغة والبناء الحرفي بديلاً عن زهو الصور وتفاعلاتها اللونية وكناياتها الرمزية ، وعن الاستعانة بالأساطير والأقاصيص والبنى الدرامية ، ولا بد من أن نلحظ تأثير تاريخنا وثقافتنا الدينية مبثوثة في ثنايا قصائدها ، ولئن كان هذا الديوان نتاج صفية المبكر ، فنحن على وعد مع أناشيد فرح عارمة تطلقها صفية في ديوان قادم إن شاء الله .