السياسي – “خطة ترامب لتحويل قطاع غزة إلى ريفييرا الشرق الأوسط فضيحة ومصطلح فظيع للغاية، وتهجير سكان غزة غير مقبول ” (المستشار الألماني أولاف شولتس تعليقا على مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الخامس من شباط/ فبراير 2025).
في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 1917 قدم أرثر بلفور، وزير خارجية بريطانيا العظمى (الذي كان معجبا بالصهيوني حاييم وايزمان) وعده لليهود بإقامة دولة على أرض فلسطين. وجاء في الرسالة التي أرسلها بلفور إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد، أبرز قيادات المجتمع اليهودي البريطاني: “تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر”.
بعد مرور 108 أعوام على وعد بلفور اللعين، وأثناء المؤتمر الصحفي المشترك بينه وبين رئيس وزراء الكيان المطلوب من قبل محكمة الجنايات الدولية بنيامين نتنياهو، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن وعده بتحويل قطاع غزة إلى مدينة تشبه موناكو والريفييرا، شريطة أن يتم إخلاء جميع سكانه إلى الدول المجاورة، وتحدث صراحة عن مصر والأردن. قامت الدنيا ولم تقعد، وبدا في الأفق بعض تراجع عن أفكاره المدمرة خصوصا وأن أسئلة كثيرة لا تزال بلا أجوبة، ومن المستحيل الإجابة عليها من دون تدخل عسكري أضخم من الحرب التي شنتها دولة الكيان على القطاع على مدار خمسة عشر شهرا وتوقفت قبل أسابيع قليلة؛ ولم تفلح لا في إنهاء قوة حماس على الأرض ولا في إزاحتها عن إدارة القطاع ولا في تحرير كامل الأسرى الصهاينة لدى المقاومة.
انتفض العالم الحر في وجه ترامب ومقترحه الذي ظهر على العلن بعد أن شاهد حماس وهي تقوم بتسليم أسرى الكيان في مشهد عز، بينما العدو يبدو ضعيفا منهزما منكسرا. وكما صرح نوعام أمير، محلل الشئون العسكرية في قناة 14 العبرية المقربة من نتنياهو، فإن “انسحاب الجيش من محور نتساريم يعني خسارة تل أبيب إنجازات الحرب بشكل نهائي، وسيطرة حماس مجددا على شمالي قطاع غزة”.
مشاهد الخزي والعار التي لحقت بالجيش الصهيوني بعد الخروج من محور نتساريم إضافة إلى مشاهد تسليم الأسرى على المنصات وتصويرهم لحظة خروجهم من بين ركام البيوت المحطمة أو في ممرات الأنفاق المظلمة، جعلت الوزير المستقيل من حكومة الحرب الصهيونية إيتمار بن غفير يصرخ: “لقد أصبحت إسرائيل أضحوكة”. تلك المشاهد التي أخرجت بعناية ودقة فائقة تمنح النصر للمقاومة والهزيمة للعدو قد ملأت قلوب الصهاينة ليس في تل أبيب فقط بل وفي البيت الأبيض؛ حقدا وغلا، فكيف لمجموعة مقاومين ليس لديهم سوى البنادق والمفرقعات أن يهينوا جيش الكيان الصهيوني الذي يقاتل بأسلحة أمريكية وغربية حديثة لخمسة عشر شهرا دون توقف؟
لم يستطع الصهاينة في الكيان أو خارجه بلع مرارة المشاهد وهي حقا مؤلمة، وقد عبر عنها رئيس مجلس الأمن القومي السابق في دولة الكيان غيورا آيلاند بالقول: “حماس ستجعلنا نزحف لإعادة الأسرى ووقفها لإعادتهم يعكس موازين القوى الحقيقية، لقد فشلت إسرائيل في الحرب”.
في تصوري وتفسيري أن نتنياهو أدرك أنه قد هُزم شر هزيمة، لذا لجأ إلى صديقه في البيت الأبيض وبكى بين يديه وقال له: أنقذ اليهود من بـأس حماس فلا قِبل لنا بهم، وإن إكمال اتفاقية الهدنة يعني نهاية المشروع الصهيوني الذي أنفقت عليه أمريكا تريليونات الدولارات على مدار عقود، لذا فوجئنا بكلام ترامب في المؤتمر الصحفي المشترك عن فظائع وهمية ارتكبتها المقاومة وعن أطفال ذُبحوا ونساء اغتصبت ونساء أجهضن. وكل ذلك عار من الصحة، ولكن ترامب أراد أن يظهر تعاطفه مع الكيان الصهيوني الذي يعيش أزمة وهزيمة لا ينكرها إلا أعمى البصيرة أو صهيوني الهوى.
من وجهة نظر ترامب كان الحديث عن تسليم القطاع لأمريكا هو الحل العبقري الذي يتم من خلاله إنهاء كل شيء، المقاومة والسكان والقضية، ولكنه ولأنه رئيس بلا خلفية أو عقلية سياسية لم يضع في حسبانه تاريخ الشعب الفلسطيني بالتمسك بأرضه والدفاع عنها عبر عقود من إنشاء دولة الكيان، لم يخطر ببال ترامب مجرد خاطر عن سبب هذه الأزمة المتجذرة، وأن هذه بلاد محتلة وأن القضية هي الاحتلال وليست إعادة العمران.
في اليوم العاشر من شباط/ فبراير الجاري وإزاء تعنت الكيان الصهيوني وإخلاله ببنود اتفاقية الهدنة ومنعه دخول المساعدات كما نصت الاتفاقية، وخصوصا المساكن سابقة التجهيز أو الكرافانات إضافة إلى منع المواد الطبية وأسطوانات الغاز اللازمة للمستشفيات، أعلنت حماس صباحا عن أنها سوف تؤجل الإفراج عن الأسرى المتفق عليهم يوم السبت المقبل. لم يمض وقت طويل حتى انتفض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وخلال لقائه مع الصحفيين مساء نفس اليوم ألقى ترامب بقنبلته في وجه الصحافة، إذ أعلن عن منح حماس مهلة حتى الساعة الثانية عشرة ظهر السبت المقبل لكي تفرج حماس عن كافة الأسرى لديها، لم يراع رئيس أكبر دولة في العالم أن ثمة اتفاقية للهدنة وجدولا زمنيا، وأن دولة أمريكا أحد الرعاة والضامنين لإجبار الأطراف على التنفيذ. وبدا ترامب وهو يتحدث للصحافة أنه يقود المعركة ضد حماس بنفسه وأنه يتصدر المشهد وكأنه يقود حكومة الحرب في فلسطين، دون أن يشغل باله بردة الفعل التي يمكن أن تنتج عن مثل هذا الإنذار من دولة عظمى ليست في حالة حرب مع الفلسطينيين أو هكذا توهمنا، لكن واقع الحال أثبت أن المقاومة الفلسطينية تواجه حربا عالمية بامتياز.
أطلق ترامب وعده في الخامس من شباط/ فبراير بالاستيلاء على قطاع غزة، وبعد خمسة أيام أطلق إنذاره وتهديده لحماس بالإفراج عن كافة الأسرى وإلا ستواجه أبواب الجحيم، ولا أعرف عن أي جحيم يتحدث ترامب! هل يعني أنه سيلقي بقنبلة نووية على القطاع؟ أم أنه سيقوم باستخدام السلاح الكيماوي لإبادة السكان الذين عجزت آلة الحرب عن تهجيرهم على مدار عقود؟
في تقديري أن حربا جديدة جاري التخطيط لها ستشمل العالم العربي كله، فترامب المحاط بالقساوسة والحاخامات قد يظن نفسه إلها جديدا أو مسيحا مخلصا أو حتى قديسا أو بابا السياسة الذي يدعو لشن حرب صليبية جديدة على العرب والمسلمين.