موت الأيديولوجيا: وهم العقل المحايد:

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

إنَّ الحديث عن “موت الأيديولوجيا” ليس إلا محض وهمٍ فلسفي، أو محاولة ساذجة للهروب من الحقيقة الأساسية: أنَّ العقل البشري لا يمكن أن يكون حيادياً تمامًا، وأنه لا توجد منطقة صافية من التصورات والمعتقدات تُسمّى مجرد “تفكير نقي”. فكل عقلٍ ينسج رؤيته للواقع وفق تركيبة معقدة من النظريات، والمعتقدات، والتصورات، والأفكار، والنظم القيمية التي تشكّل وعيه الاجتماعي والسياسي والثقافي. هذا ما أكده كارل مانهايم في كتابه الكلاسيكي أيديولوجيا واليوتوبيا (1929)، حين رأى أنَّ كل فكرة وموقف يُصاغ في سياق اجتماعي معيّن، وأنه من المستحيل عزل العقل عن الانتماء التاريخي والسياسي والثقافي الذي يحدّد اتجاهاته.
إن من يزعم موت الأيديولوجيا إنما يتحدث إمَّا عن عقل أسطوري، كما لو كان هناك كيانٌ بشري يستطيع النظر إلى العالم دون أي معايير، أو عن تفكير رغبي يُسقط فيه الأمل على عالمٍ نقيٍّ من الصراعات والقيم. فالمنحى الأيديولوجي ليس مجرد مجموع من الأفكار النظرية، بل هو القوة التي تشكّل الوعي، وتوجه السلوك، وتضبط التفاعل بين الفرد والمجتمع. أيديولوجيا ما هي إلا إطار لفهم العالم، يمكّن الإنسان من استيعاب الواقع والتفاعل معه. وقد تكون هذه الأيديولوجيا حقيقية، أي منسجمة مع الواقع، وقد تكون زائفة، أي مُستندة إلى أوهام أو تحيّزات، لكنها تبقى العامل الذي يُوجّه التفكير الاجتماعي والسياسي والثقافي.
الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو ذهب أبعد من ذلك حين نظر إلى المعرفة والسلطة كزوجين متلازمين، مؤكدًا أن كل نظام معرفي يحمل بداخله عناصر أيديولوجية تُشكل منطق السلطة، وتحدّد ما يُسمح به من قول وما يُحظر. أما جورج لوكاش، في الوعي الطبقي، فقد رأى أن الأيديولوجيا ليست مجرد خداع أو إخفاء للواقع، بل هي التعبير عن رؤية العالم الخاصة بفئة اجتماعية معينة، وأن فهم الأيديولوجيا يتطلب تفكيك العلاقة بين الواقع الموضوعي والوعي الاجتماعي.

لذلك، ليس من سبيل للفصل بين العقل والمنحى الأيديولوجي الذي يحدّد ميوله واتجاهاته. العقل الذي يزعم أنه “نقي” هو عقل مطبوع سابقًا بقيم وأولويات، ولو بطريقة غير واعية. وما يطلق عليه البعض “موت الأيديولوجيا” ليس موتًا حقيقيًا، بل هو محاولة لإنكار الطبيعة الاجتماعية والسياسية للوعي البشري، وإخفاء التوتر بين ما هو موجود وما يُراد له أن يكون.

إن إدراك هذه الحقيقة، وإعادة الاعتبار للأيديولوجيا كعنصر أساسي في تشكيل العقل والوعي الاجتماعي، ليس مجرد فكر فلسفي نظري، بل هو شرط لفهم ديناميات القوة، وتحولات المجتمعات، ونشوء الحركات الفكرية والسياسية والثقافية. فالأيديولوجيا لم تمت، ولن تموت ما دامت هناك حياة عقلية واجتماعية وسياسية، بل إنها تتبدل، تتطور، وتتنوع مع تطور البشر والمجتمعات، لتظل دائمًا القوة الخفية التي تُحفز الفكر، وتشكّل الواقع.