موت المؤلف: ولادة النص من رحم الحرية:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

منذ أن دوّى صوت الناقد الفرنسي رولان بارت عام 1967 معلناً في مقاله الشهير عن “موت المؤلف”، ارتجّت الساحة النقدية والفكرية بزلزالٍ لم تهدأ ارتداداته إلى اليوم. لم يكن بارت يعلن موتاً بيولوجياً لكاتبٍ ما، بل كان يُطلق رصاصة الرحمة على سلطةٍ نقدية وفكرية عمرها قرون: سلطة المؤلف الذي ظلّ يُهيمن على النص، ويقيده بحدود نيّاته وظلال سيرته. لقد أراد بارت أن يُحرّر النص من سطوة صانعه، ويُطلقه في فضاءٍ مفتوحٍ يفيض بالقراءات، حيث يُصبح النص كائنًا حيًّا ينمو ويتحوّل كلّما لامسته عيون جديدة وقراءات مختلفة.
يقول بارت في مقاله الشهير: “ولادة القارئ لا بد أن تكون على حساب موت المؤلف.”، وهي عبارة تختزل فلسفة جديدة في القراءة والتأويل، تجعل من النص الأدبي فضاءً متعدّد الأصوات، لا يحتكر فيه الكاتب القول الفصل، ولا يتربّع فيه على عرش المعنى. فبعد أن كان النقد التقليدي يسأل في خشوع: ماذا أراد المؤلف أن يقول؟، صار النقد الحديث يسأل في جرأة: ماذا يقول النص نفسه؟.
النص بوصفه كائناً مستقلاً
في هذا التحوّل الجوهري، يغدو النص كائنًا حيّاً، منفصلًا عن رحم مؤلفه، له كينونته الخاصة، وحياته المستقلة. فكما لا يعود الطفل إلى رحم أمّه بعد ولادته، لا يعود النص إلى صاحبه بعد أن يُكتب. لقد أصبح النص كيانًا لغويًا مفتوحًا، يتفاعل مع الأزمنة والثقافات والقرّاء، ويُعيد تشكيل نفسه في كل قراءة جديدة. وهذا ما جعل جاك دريدا يؤكد أنّ “النص لا يحمل معنى واحدًا، بل يفيض بمعانٍ تتكاثر مع كل محاولة لفهمه”، وأن اللغة نفسها خيانةٌ مستمرة للنية الأصلية.
تحرر المعنى من نوايا المؤلف
يُشبه موت المؤلف ثورةً على الاستبداد الفكري، فالناقد والكاتب والفيلسوف جميعهم كانوا شركاء في إنتاج سلطةٍ تمنح الكاتب وحده حقّ تفسير نصّه. لكن بارت جاء ليقلب الطاولة على هذا الموروث، معلنًا أن النص لا يُقاس بسيرة المؤلف أو بمعتقداته، بل ببنائه الداخلي، وبتفاعل القارئ مع لغته. لقد تحوّل المعنى من كونه وديعةً في ذهن الكاتب إلى كونه حدثًا يقع بين النص والقارئ في لحظة القراءة ذاتها.
ومن هنا يتقاطع مفهوم “موت المؤلف” مع ما ذهب إليه مارتن هايدغر في حديثه عن الفن بوصفه كشفاً للحقيقة، لا ملكيةً لأحد. فالفن لا يُفصح عن ذاته إلا حين يُترك حرّاً، خارج قصدية الخالق، ليتجلّى في أعين من يتلقّاه.
القارئ شريك في الخلق
لم يعد القارئ متلقياً ساذجاً ينتظر أن يُملي عليه الكاتب المعنى، بل أصبح خالقاً مشاركاً في توليد النص. فكل قراءة هي ولادة جديدة، وكل قارئ هو كاتب خفيّ. ولهذا يرى أمبرتو إيكو أن “النص عمل مفتوح”، لا ينغلق على تأويل واحد، بل يُغري قرّاءه بمتاهات لا نهائية من الدلالات. ومن هذا المنطلق، تتحول القراءة إلى فعل حرية، إلى مغامرة عقلية وروحية، يتخطى فيها القارئ المؤلف ليواجه النص وحده، في حوارٍ مفتوحٍ مع اللغة والرمز والخيال.
نهاية السلطة وبداية التعدد
إنّ موت المؤلف لا يعني محو أثره أو جحد فضله، بل يعني إسقاط سلطته المطلقة على النص، تماماً كما أسقط الفكر الحديث سلطة الكاهن في تفسير الوحي، أو سلطة الحاكم في تأويل الحقيقة. إنّها ثورة فكرية تُعيد توزيع الأدوار بين الكاتب والقارئ والنص، وتفتح بابًا أمام الديمقراطية التأويلية، حيث تتعدد الأصوات، وتتعايش القراءات دون أن يطغى أحدها على الآخر. وهنا يتجلّى جوهر الفكر الحداثي الذي يقوم على النسبية، والتعدد، وتكافؤ المعنى.
خاتمة: من موت المؤلف إلى خلود النص
في ضوء هذه الرؤية، يمكن القول إنّ “موت المؤلف” ليس فاجعة أدبية، بل هو ميلاد جديد للنصّ ذاته. فحين يموت المؤلف رمزياً، يُولد النص من جديد، ويتنفس في فضاء الحرية والتأويل. لقد فهم نيتشه هذا المعنى من قبل حين قال: “علينا أن نحمل في داخلنا فوضىً كي نلد نجمًا راقصًا.” — وكذلك فعل بارت حين حمل فوضى المعاني ليُطلق نجم النصّ في سماء القراءات.
وهكذا، فإنّ النص الذي يتحرر من مؤلفه لا يفقد هويته، بل يستعيدها في كل قراءة، فيغدو خالدًا بخلود اللغة، حيًّا بحياة القرّاء، متجدّدًا بتجدّد الفكر.
إنه موتٌ يلد حياةً — حياة النص الحرّ الذي لا سلطان عليه إلا المعنى.