موسم قطف الزيتون في الضفة الغربية: جذور الصمود في وجه الاقتلاع

كتب د. راسم بشارات

مع حلول الخريف في فلسطين، يعود موسم الزيتون ليشكل حدثا سنويا يتجاوز كونه موسما زراعيا بحتا. إنه احتفال بالأرض والهوية، وطقس اجتماعي واقتصادي ضارب في التاريخ، لكنه في الوقت نفسه معركة مستمرة يخوضها الفلسطينيون في وجه سياسات الاحتلال التي تستهدف الشجر والبشر معا.

وتعد شجرة الزيتون واحدة من أبرز الرموز التي تعبر عن علاقة الفلسطيني بأرضه وتاريخه، فهي ليست مجرد شجرة مثمرة، بل شاهد حي على الجذور العميقة التي تربط الإنسان الفلسطيني بأرضه منذ آلاف السنين. وقد غدت الزيتونة رمزا للسلام والثبات والصمود في وجه محاولات الاقتلاع والتهجير، كما رسخت مكانتها في الوعي الجمعي الفلسطيني من خلال الأمثال والأغاني والحكايات الشعبية التي تعبر عن ارتباط الإنسان بالأرض.

انتشار واسع وجذور عميقة

تنتشر أشجار الزيتون في معظم أنحاء فلسطين التاريخية، خصوصا في المناطق الجبلية والسهلية ذات المناخ المعتدل والتربة الخصبة. وتعد محافظات الضفة الغربية مثل نابلس، جنين، رام الله، طولكرم، وبيت لحم من أهم مراكز زراعة الزيتون، كما تشتهر المناطق الساحلية والجنوبية مثل غزة والخليل بأصناف مميزة منه. وتقدر مساحة الأراضي المزروعة بالزيتون بأكثر من نصف الأراضي الزراعية الفلسطينية، ما يجعلها العمود الفقري للزراعة في البلاد.

وتعتبر شجرة الزيتون من أقدم الأشجار التي عرفها الفلسطينيون، إذ تشير الدراسات الأثرية إلى أن زراعتها تعود إلى أكثر من ستة آلاف عام في بلاد الشام. وقد ذكرت في الكتب السماوية، واتخذت مكانة خاصة في التراث الفلسطيني كرمز للسلام والثبات. وعلى مر العصور، من الكنعانيين والرومان حتى العصر الحديث، بقيت هذه الشجرة شاهدة على تمسك الفلسطيني بأرضه رغم الاحتلال والحروب و الاقتلاع القسري.

ركيزة اقتصادية ورافعة اجتماعية

لا تقتصر أهمية الزيتون على رمزيته، بل يشكل ركيزة أساسية للاقتصاد الفلسطيني، إذ يعتمد أكثر من 100 ألف أسرة على هذا القطاع كمصدر دخل رئيسي، كما يوفر موسم القطاف آلاف فرص العمل الموسمية. ويستخدم الزيت الفلسطيني، الذي يعد من أجود الأنواع عالميا، في الطهي وصناعة الصابون والمنتجات التقليدية. ويساهم هذا القطاع بنسبة معتبرة في الناتج الزراعي المحلي، مما يجعله عنصرا حاسما في تحقيق الأمن الغذائي وتعزيز صمود المزارعين في وجه السياسات الاستعمارية.

وعلى المستوى الاجتماعي والثقافي، يشكل موسم القطاف مناسبة وطنية توحد العائلات والمجتمع في أجواء من التعاون والتكافل، ويتحول الحقل إلى مساحة لقاء تعيد الفلسطيني إلى جذوره.

موسم الزيتون 2025: حصاد تحت الحصار
لكن الصورة المشرقة لهذا الموسم تصطدم هذا العام بواقع قاس. فمنذ مطلع 2025 وحتى اليوم، وثقت المنظمات الحقوقية اقتلاع أو تدمير ما لا يقل عن 9,700 شجرة زيتون في الضفة الغربية نتيجة اعتداءات الاحتلال ومستوطنيه.

ففي بلدة المغير شمال رام الله، اقتلع جيش الاحتلال نحو 3,000 شجرة زيتون في آب بذريعة “أسباب أمنية”، فيما قطع المستوطنون نحو 200 شجرة في أيار. وفي الساوية جنوب نابلس تم قطع 35 شجرة خلال هجوم، كما شهدت محافظة سلفيت قطع 100 شجرة في آذار. وفي مسافر يطا جنوب الخليل، جرى اقتلاع نحو 200 شجرة أخرى، فيما تعرضت عزون في قلقيلية لاقتلاع 55 شجرة ناضجة.

وتظهر تقارير محلية أن محافظات بيت لحم ورام الله ونابلس خسرت حتى منتصف عام 2025 ما لا يقل عن 6,144 شجرة زيتون. كما اقتلع المستوطنون 50 شجرة معمّرة شرق قلقيلية، وحطموا 50 شجرة أخرى في أراضي كفر قدوم، وقطعوا أشجارا في أبو فلاح.

ولم تقتصر الانتهاكات على التدمير، بل اتخذت أشكالًا أكثر استفزازا:

  • ففي بيت عور برام الله، اعتدى المستوطنون بسلاحهم على الأهالي ومنعوهم من الوصول إلى أراضيهم لقطف الزيتون.
  • في دوما، أقدم المستوطنون على قطف ثمار الزيتون بأنفسهم عند المدخل الرئيسي للقرية، في سابقة خطيرة.
  • وفي وادي الربابة ببلدة سلوان جنوب المسجد الأقصى، سرق المستوطنون ثمار الزيتون بينما منعت قوات الاحتلال أصحاب الأرض من دخولها واعتدت عليهم.
  • في رنتيس غرب رام الله، احتجزت قوات الاحتلال المزارعين ومنعتهم من الوصول إلى أراضيهم إلا بتصاريح خاصة.
    وفي سهل مرج سيع بين المغير وأبو فلاح، أقدمت قطعان المستوطنين فجر اليوم على قطع وتدمير أكثر من 120 شجرة زيتون، تعود ملكيتها لأهالي أبو فلاح ويقدر عمرها بأكثر من ستين عاما. وقد نفذت هذه الاعتداءات تحت جنح الظلام، حيث دمرت أكثر من 100 شتلة زيتون في الليلة السابقة، في مشهد وصفه الأهالي بأن المستوطنين “يعملون كخفافيش الليل” في استهداف رموز الصمود الفلسطيني.

توصيات لحماية المزارعين وضمان وصولهم لأراضيهم
أمام هذا الواقع المأساوي، بات من الضروري تبني خطوات عملية وفورية لحماية المزارعين وتعزيز قدرتهم على الصمود في أراضيهم، أبرزها:

  1. توفير حماية دولية عاجلة للمزارعين خلال موسم القطاف، عبر وجود مراقبين دوليين ومتطوعين أجانب في المناطق الساخنة.
  2.   الضغط الدولي لإلغاء نظام التصاريح الذي تستخدمه سلطات الاحتلال لمنع الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم.
  3. توثيق كل الاعتداءات وتقديمها للمحاكم الدولية كجرائم حرب وانتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني.
  4. دعم المزارعين ماليا وتقنيا لتعويضهم عن الأشجار المقتلعة وتسهيل إعادة زراعة الأراضي المتضررة.
  5. تنظيم حملات تضامن محلية ودولية لمرافقة المزارعين في الحقول وردع المستوطنين عن الاعتداء.
  6. إنشاء فرق حماية شعبية مدربة في القرى والبلدات لحماية المزارعين وممتلكاتهم بالتنسيق مع المؤسسات الحقوقية
    الخاتمة

أمام هذه الاعتداءات، يصر الفلسطينيون على مواصلة موسمهم وتحويل قطف الزيتون إلى فعل مقاومة يومي، حيث تنظم اللجان الشعبية والمتطوعون المحليون والدوليون حملات لمرافقة المزارعين وحمايتهم في الحقول، في مشهد يعكس تمسك الفلسطينيين بأرضهم وهويتهم رغم الخطر.

موسم الزيتون في الضفة الغربية هذا العام ليس مجرد موسم قطاف، بل معركة بقاء وهوية في وجه سياسات اقتلاع الأرض والإنسان. فبينما تحاول جرافات الاحتلال اقتلاع الزيتون وتجفيف جذوره، يواصل الفلسطينيون زراعته وحصاده جيلا بعد جيل، مؤكدين أن علاقتهم بأرضهم ليست موسمية ولا ظرفية، بل هي جذر يمتد في عمق التاريخ لا يمكن اقتلاعه.

ومهما بلغت أعداد الأشجار التي يتم اقتلاعها، سواء كانت بالالاف سنويا أو أكثر من 800 ألف شجرة على مدى عقود، تبقى شجرة الزيتون في فلسطين رمزا للصمود والانتماء، ودليل على أن الفلسطينيين ما زالوا متشبثين بأرضهم رغم كل محاولات الاقتلاع.