مِصر… ضلع الشقيق 

كتب بهاء رحال

لم يكن العتب يومًا نكرانًا، بل وجهَ الحب حين يكون سقفُ الآمال عاليًا. الفلسطيني لا يعاتب مصر لأنها بعيدة، بل لأنها الأقرب، أقرب من نبضه المتعب تحت الركام، وأقرب من اسمه حين يُنادى في الغياب. هي الأخ الأكبر حين يغيب البقية، وهي الجدار الذي يمدّ يده ليمنع العاصفة من اقتلاع ما تبقّى من الخيمة.

لم يكن العتب على مصر وحدها، بل على كل من يسكنون خريطة العالم، وارتدوا عباءة العروبة في نشيد الصباح؛ من محيطٍ لا يسمع نداء الموج، إلى خليجٍ فقد صوته بين الأروقة الباردة، ونيران حرب الإبادة والتطهير العرقي المستمرة بوحشيتها في غزة.

رأينا الملايين تخرج غاضبة في شوارع سيدني وباريس وروما وإيرلندا ونيويورك، تصرخ للحياة في وجه الموت، وتُصلّي لأجل أطفال غزة الذين يموتون جوعًا وقصفًا، بينما شوارعنا نحن بقيت صامتة، خالية من التظاهرات، كأنها تواطأت مع الخوف أو نامت في حضن الحياد. صحيح أن القلوب يلفّها حزنٌ شديد، وأن الصور القادمة من الشاشات ملأتنا بالبكاء، ولكن الحزن وحده لا يصنع موقفًا، والدمعة لا تنقذ طفلًا يموت جوعًا، ولا تطعم الجوعى والعطشى لتمنحهم قوت النجاة.

ومع ذلك، في زاوية الحكاية التي شوّهها الكذب، ثمة حقيقة ثابتة، لا تهزّها الريح، ولا يمكن أن يُنكرها عاقل، فمصر لا، ولم تغلق قلبها، ومن أول صاروخٍ سقط، قالت “لا” بصوتٍ قوي لا رجفة فيه، حين رفضت التهجير، وقاومت كل المخططات التي أرادت أن تفتح باب سيناء لعبور الناس، وهي تعرف جيدًا أن من يخرج من غزة لن يعود إليها، كما تعرف أن تمرير المؤامرة من بوابتها خيانة لا تليق بتاريخها، ولا بجغرافيتها التي كُتب فيها أول سطرٍ للحضارة.

منذ اللحظة الأولى، لم تكن مصر صامتة، بل كانت الوسيط، والرافض، والمانع، وكانت تُفاوض بالنيابة عن كل الصامتين، وكل المتخاذلين، وكل الذين تآمروا في السرّ والعلن، وتضغط بكل الأشكال والطرق والوسائل، لتحمي ما يمكن حمايته، وتحفظ البقاء للناس في غزة على أرضهم ووطنهم.

لا أحد يُنكر أن بعض الأصوات حاولت تشويه المشهد، فألقت التهمة دون أن تنظر إلى الجهة الأخرى من المعبر، حيث الاحتلال يسيطر عليه بأبراج المراقبة والجنود، وبالكاميرات والقيود، وهذه هي الحقيقة على الأرض التي لا يقولها من يحاولون إثارة الفتن وزعزعة المواقف الثابتة.

مصر ليست غريبة، بل هي ضلعنا الثابت حين ترتعش الأكتاف، ولا يليق بنا أن نُحمّلها ما لا تحتمل، بينما البعض يلوذ بالصمت، والبعض الآخر منشغل بنشر الإشاعة، وقول الأكاذيب وشهادة الزور، وفي ذات الوقت نجد البعض يتساوق مع الشائعات ويبثّها خدمة لأغراض وأهداف مشبوهة. وسواء أكان يعلم ما يقترفه بلسانه من تشويه وتضليل فتلك مصيبة، وإن كان لا يعلم، فالمصيبة أعظم.