في زمنٍ تتراجع فيه الحقيقة إلى الهامش، وتعلو فيه الضوضاء على الصوت الأصيل، يظل د. ناصر اللحام واقفًا كصوتٍ لا ينكسر، وقلمٍ لا يساوم. فهو ليس مجرد إعلامي عابر في المشهد الفلسطيني، بل ضمير حيّ، وذاكرة تقاوم، وشاهد على لحظاتٍ كان فيها الصمت جريمة.
“أبو مارسيل”، كما يحب كثيرون أن ينادوه، ليس اسماً عاديًا في الساحة الإعلامية الفلسطينية، بل هو ذاكرة حيّة، وقلمٌ مشتبك، وصوت لا يخشى الانحياز للحقيقة مهما بلغت الكلفة. تشعر وأنت تتابع تقاريره، أو تقرأ مقالاته، أنك أمام إنسان ينطق بلسان الناس، ويتنفس نبض الشارع، ويكتب كما يتنفس الفلسطيني: بعناء، وبكرامة، وبشغفٍ للبقاء.
ورغم أن المشهد الإعلامي العربي يغصّ بالوجوه المتكررة والعبارات المحنّطة، ظل اللحام يكتب ويُحلّل ويُعلّق بلغة تشبه الماء: رقراقة، شفافة، تحمل عمقًا هادئًا في ظاهر بسيط. لغته ليست للزينة، بل للحفر في وجدان المتلقّي، ولإشعال جذوة الأسئلة، لا لتخديرها.
في ظل الاحتلال، يصبح الإعلام مقاومة، والكلمة معركة، والصمت خيانة. وقد اختار ناصر اللحام الانحياز الكامل للقضية، دون تجميل، ودون تردد. كشف المستور، وعرّى الزيف، وانتصر للناس.
وإن كان لا يزال في الزنزانة اليوم، فإن كلماته حرّة تطير كل يوم في الهواء، وتوقظ فينا الإحساس بالكرامة، والحاجة المستمرة للوعي.
ليس الغياب عن الشاشة هو ما يغيّب أمثال ناصر اللحام، بل هو ما يكرّس حضورهم. لأن أمثال هؤلاء لا يُقاس حضورهم بعدد دقائق البث، بل بأثرهم العميق في الوعي الجمعي، وبما زرعوه من قيم وجرأة في أجيالٍ تعلّمت من سيرتهم أن الحبر قد يكون أكثر فتكًا من الرصاص.
ختامًا، لا يُقاس أثر ناصر اللحام بمكان وجوده، بل بما تركه فينا من وعي وجرأة ومسؤولية. نسأل الله أن يفك أسره، وأسر جميع أسرى الحرية في سجون الاحتلال، وأن يعود صوته مدوّيًا كما عهدناه: صادقًا، مشتبكًا، لا يخشى الحقيقة، ولا ينكسر أمام القيد.لأن الكلمة، حين تخرج من فم ناصر اللحام، لا تكتفي بأن تُقال… بل تُقاتل.
*ناشط سياسي وكاتب عربي فلسطيني عضو الامانة العامة للشبكة العربية للثقافة والرأي والإعلام.