نحو نكبة ثالثة: لأننا صامتون كالمقابر

بقلم: محمد أبو التاج

هناك لحظة يصل فيها الشعب إلى حافة لا يعود بعدها. نحن الآن على هذه الحافة. ما نعيشه اليوم ليس مجرد تراجع سياسي، ولا أزمة اقتصادية، ولا خلاف داخلي. ما يحدث اليوم أخطر.. نحن ننزلق نحو نكبة ثالثة.. ببطء شديد، وبصمت مخيف، وكأننا في المقابر.
قبل أن نطرح اللوم على أحد، علينا أولا أن نقول الحقيقة كما هي.. الناس تعبت.. الشارع يغلي بصوتٍ مكتوم.. البيوت مشتعلة بالقلق.. الفلسطيني اليوم لا يفكر في مستقبل الوطن بقدر ما يفكر: كيف ينجو؟ كيف يعيش يوما آخر؟ هذه ليست حياة شعب يريد الحرية.. هذه حياة شعب يُدرب يوما بعد يوم على قبول الهزيمة.
نحن لا نكتب عن الماضي.. نحن نرى الواقع أمامنا:
ضيق اقتصادي.. مستقبل غير واضح.. قرار سياسي بلا أفق.. وانقسام صار جزءا من الروتين اليومي.
هكذا تبدأ النكبات.. وليس في بيانات المؤرخين.
الأرض التي تضيق على أهلها
هناك سؤال بسيط لو طرحناه على أنفسنا بصدق:
هل ما زال الوطن يعني لنا شيئا؟ أم أننا أصبحنا نعيش كأننا ضيوف.. لا متجذرون؟
حين يفقد الإنسان الشعور بالانتماء، يصبح الوطن مجرد جغرافيا.. وعندما يصبح الوطن جغرافيا فقط، تسهل خسارته.
اليوم، كثيرون يعيشون بهذه العقلية: “الهم واحد.. والمكان لا يهم”.
وهذه علامة خطر.. لأن النكبة تبدأ في العقول قبل أن تحدث على الأرض.
ثقافة الاعتياد.. الخطر الصامت
الخطر ليس في الجوع وحده.. ولا في الاحتلال وحده.. ولا في الانقسام وحده.
الخطر الأكبر: أن نعتاد كل هذا.
نعتاد الجوع، فنقول “الله كريم”.
نعتاد المهانة، فنقول “هي الظروف”.
نعتاد غياب القرار، فنقول “شو بدنا نعمل”.
نعتاد خوف الأطفال، فنقول “هكذا الدنيا”.
هكذا تُقتل الشعوب دون طلقة.. ويُطفأ صوتها دون صراخ.
وحين يصبح الظلم طبيعيا.. يصبح الحلم مستحيلا.
نحن في المنطقة الخطرة
كل الشعوب التي فقدت أوطانها مرّت بهذه المرحلة: مرحلة الكلام الكثير.. والفعل القليل.
الشكوى موجودة.. الغضب موجود.. لكن لا توجد بوصلة.. لا توجد وجهة.
الشعب الذي يصرخ.. ولا يعرف ما يريد.. لا يصل إلى مكان.
اليوم، نحن في لحظة تشبه الوقوف على باب التاريخ.. إما ندخله كشعب وقف وواجه..
أو نُكتب فيه كمثال جديد على شعب رأى النكبة الثالثة تتشكل أمامه.. واكتفى بالمشاهدة.
من المسؤول؟
السؤال الذي يهرب منه الجميع: من المسؤول؟
الحقيقة الصادمة: المسؤولية على الجميع..
على القيادة التي استهلكت الناس بالوعود..
وعلى القوى التي انشغلت بحساباتها الصغيرة..
وعلى الشارع حين استسلم للفكرة أن “لا شيء يمكن تغييره”.
المسؤولية اليوم جماعية.. لأن الانقاذ لا يحدث بقرار واحد.. بل بتحول كامل في الوعي.
الوعي بأن لا أحد سيحمل همّنا عنا.
ولا أحد سيبني وطنا إن كنا نحن أول من تخلى عنه.
مستقبل بلا خطة.. يعني نكبة جاهزة
أي شعب لا يسأل: “إلى أين؟” سيجد نفسه يصل إلى مكان لم يختره.
هل لدينا خطة وطنية جامعة؟ رؤية اقتصادية؟ مشروع سياسي حقيقي؟
إن لم يكن الجواب “نعم”.. فهذه ليست أزمة فقط.. هذه وصفة لنكبة قادمة.
الصدمة التي يجب أن نقولها لأنفسنا
إن لم نغيّر طريقة تفكيرنا.. إن لم نواجه أنفسنا قبل أن نواجه الآخرين.. فلا داعي لانتظار التاريخ ليخبرنا أننا خسرنا.
الخسارة لن تأتي فجأة.. ستأتي كما تأتي الآن:
نقطة.. فوق نقطة.. حتى نصحو ونكتشف أننا مجرد ذكرى داخل جغرافيا لا نحكمها، ولا نؤثر فيها، ولا نستحقها كما يجب.
سؤال أخير
إذا أغمضت عينيك الآن وسألت نفسك بصراحة:
هل نحن نتجه نحو دولة وحياة وكرامة؟
أم نحو وطنٍ يتحوّل شيئا فشيئا إلى ذاكرة.. إلى صورة.. إلى أغنية حزينة؟
الفرق بين الخيارين ليس قرارا سياسيا فقط.
الفرق الحقيقي: هل نعتبر أنفسنا شعبا يستحق الحياة.. أم جمهورا ينتظر النهاية؟
قد لا نملك القوة الغارقة في الشعارات..
وقد لا نملك إمكانيات كبرى..
لكن نملك شيئا لا يستطيع أحد أخذه دون إذننا:
الإرادة.
فإن ماتت الإرادة..
فالنكبة الثالثة لن تكون حدثا تاريخيا..
بل ستكون بإسمنا.