ينظم قادة إسرائيل وقادة إيران حرباً لا نهاية لها، تغذيها الأساطير ولا تقربها الوقائع، بل إن الوقائع والحقائق تتحول إلى الضحية الأولى لهذه الحرب.
المرشد الإيراني علي خامنئي ذهب في وقت متقارب إلى توصيف مفاجئ للحرب الدائرة. إنها المعركة بين “الحسينيين واليزيديين”. هكذا قسم الخامنئي العالم إلى جبهتين لا علاقة لهما بالوقائع. فلا الحسينيون ولا اليزيديون هم من يخوض الحروب. وبالتأكيد ليست إسرائيل وأميركا في معسكر اليزيديين أو الحسينيين، كما أن المعركة الراهنة لا تمت بصلة إلى انقسام كانت تغذيته ضرورة لاستمرار نزاعات المسلمين ومشاريع التسلط المذهبي.
في قاموس نتنياهو وفي المعجم الديني الفارسي لا وجود لشيء اسمه فلسطين أو القدس أو الأرض المحتلة.
لدى نتنياهو يصبح رفع شعار الخطر الإيراني طريقاً لتجاهل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ولدى خامنئي يتولى شعار الحرب اليزيدية – الحسينية طمس القضية العربية الفلسطينية كلياً لتصبح مهمة إيران وأنصارها تحقيق النصر الحسيني في العالم، وتعميم فوائد النظام الخميني على سكان الكرة الأرضية.
يستدعي تحقيق هذه المهمة “توغلاً” وفرزاً مذهبياً يقتضيه الشعار في المجتمعات والدول العربية، وانتصارها رهن بتحقيق الفوز على أميركا إن لم تكن المساومة معها.
وتختصر نائبة مساعد وزير الدفاع الأميركي دانا سترول (2021-2023) الأهداف الإيرانية كما تراها حكومتها على النحو التالي “إيران تسعى إلى طرد القوات الأميركية من الشرق الأوسط، وفرض نفسها كالقوة الإقليمية المهيمنة… وبعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) رأى الإيرانيون فرصة لتحقيق هذه الأهداف بقوة أكبر من خلال تفعيل وكلائهم”. الشرح الأميركي أكده مسؤولون إيرانيون وكرروه، إنهم يعملون لإخراج أميركا من “غرب آسيا”. وعلى قول حسن نصر الله أمين عام “حزب الله” بعد مقتل قاسم سليماني إن “الجنود الأميركيين جاءوا عمودياً ويجب إخراجهم أفقياً، أي في التوابيت. الشرح الأميركي للقصد الإيراني من تعلية مقولة حرب اليزيديين والحسينيين يضمر تفسيراً لحقيقة الاهتمام الإيراني بإيصال الفلسطينيين إلى حقوقهم. تلك الحقوق التي تستعمل مطية لدى الخوض في موجبات تطبيق نظرية الصراع الخامنئية.
في موازاة الخامنئي ينحو نتنياهو منحى مماثلاً في تجهيل الحقيقة. إنه إذ يزعم أن إيران تريد إزالة إسرائيل من الوجود يقفز فوق الحقائق الفاقعة على الأرض، فكأنه لا توجد مشكلة احتلال إسرائيلي يمارس القضم وضم الأراضي ولا حضور لشعب فلسطيني يواصل الدفاع عن مستقبله في وطنه منذ أن كانت إيران مستعمرة في فلك التاج البريطاني.
يلتف نتنياهو على الوقائع التي هي صلب المشكلة ليبني رواية تلاقيه فيها إيران بنظرياتها البائسة. ومثلما يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي القفز فوق الطريق الوحيد الذي يقود إلى السلام عبر الإقرار بحق الشعب الفلسطيني بدولته المستقلة، تلجأ إيران إلى توصيفات مذهبية ما فوق الورائية للصراع في تجهيل لطبيعته وسعي للخروج منه يقود عملياً إلى النتيجة نفسها، استمرار الوضع القائم عبر تضييع أسس قيامه.
وفي الحالتين لا مخرج سوى مواصلة الحروب العبثية التي يدفع ثمنها الفلسطينيون واللبنانيون تحديداً لوقوعهما في قلب الرؤيتين العبرية والإيرانية. والواقع أن منفذي الرؤية العبرية يعملون في هذا الاتجاه مثلما يعمل ملتزمو الرؤية الإيرانية، في وقت تنأى إيران بنفسها عن التورط بما في ذلك عن الرد الماحق الذي وعدت به ضد إسرائيل منذ زمن طويل وكررته بشدة خفتت شيئاً فشيئاً بعد اغتيال إسماعيل هنية على أرضها قبل شهر.
لا قادة إيران ولا قادة إسرائيل يهتمون بإيجاد مخارج من حال القتل المديدة، ويرفع نتنياهو راية مواجهة طهران ليوغل في قتل الفلسطينيين، وترفع إيران راية القدس وتكلف الوكلاء بخوض معارك تجر الويلات والكوارث خصوصاً في لبنان، ولكل طرف منهما حساباته. يبدو نتنياهو “كمن يهتم بالحرب الأبدية ويوجد له شريك في الطرف الآخر” يقول الكاتب في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية عاموس هرئيل. ومثله مثل الخامنئي ينتظر نتنياهو نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. هو يفضل فوز دونالد ترمب الذي خرج من الاتفاق النووي مع إيران، وخامنئي يفضل فوز منافسته أملاً في العودة إلى النهج الذي أرساه باراك أوباما في فك الحصار عن نظامه. لكن تجربة السنة التي بدأت في السابع من أكتوبر أثقلت جدول أعمال الأطراف جميعاً ولا مفر من العودة إلى معالجة المشكلة في جذورها، حق الفلسطينيين بدولتهم وحق العرب ودولهم بوضع حد للمشروع التوسعي المذهبي الإيراني.