نقاش في طبيعة حزب الله ومآلاته

ماجد كيالي

حصل حزب الله، فيما مضى، على مكانة مرموقة، وشعبية كبيرة، على الصعيد العربي، بفضل دوره الوطني، ومقاومته المتميّزة لإسرائيل، التي اضطرّت للانسحاب الأحادي من جنوبي لبنان (صيف 2000)، رغم طبيعته كحزب ديني، وطائفي، ومرجعيته لدولة إقليمية، هي إيران، مع العلم أن ذلك الانسحاب، ومثيله الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة (2005)، أتى أيضا لتوظيفات إسرائيلية، ضمنها التخفف من العبء الأمني والسياسي الناجم عن السيطرة على تلك المنطقة، ولدفع حزب الله كي يصبح مشكلة داخلية للبنان، يصرف بها طاقته العسكرية، وهو ما حصل في دور ذلك الحزب في لبنان، ثم في سوريا.

المفارقة أن ذلك الانسحاب، الذي سجّل كانتصار لصالح حزب الله، هو ذاته الذي وضع هذا الحزب في حالة أزمة، وضمنها إثارة الشبهات بشأن طبيعته ودوره وارتباطاته، بمعنى أن إسرائيل استطاعت أن تجوّف هذا الانتصار، وأن تجعله عبئاً على حزب الله بابتعاده عن وظيفة المقاومة، وبدفعه إلى الغرق في مشكلات لبنان الداخلية، ثم الإقليمية.

بالنتيجة فقد أفل مشروع المقاومة الخاص بحزب الله من الناحية العملية، وإن بقي من الناحية الشعاراتية أو النظرية، ولأغراض الاستهلاكات والتوظيفات المحلية، بدليل توقف عمليات المقاومة منذ العام 2000، مع التزام الحزب بحدود الخط الأزرق، ومضمون قرار مجلس الأمن الدولي 1701 القاضي بنشر قوة دولية وقوة من الجيش اللبناني على الحدود اللبنانية الإسرائيلية.

ومعلوم أنه تم خرق تلك الالتزامات بعملية خطف جنديين إسرائيليين (2006)، التي استدرجت بدورها ردّة فعل إسرائيلية وحشية ومدمرة، دفع لبنان ثمنها غاليا، واعتذر عنها نصر الله في خطاب شهير له، نوّه فيه إلى أن هذه العملية ما كانت لتتمّ لو أنه كان يقدّر أن ردّة الفعل الإسرائيلية ستكون على هذا النحو.

أيضا، وكما نشهد على خلفية الحرب الإسرائيلية ضد فلسطينيي قطاع غزة، فقد تم مجددا خرق تلك الالتزامات، عبر اشتباكات محدودة، وفق ما يسمى قواعد اشتباك، فقط لتغطية التهرب من مقولة «وحدة الساحات»، علما إن إسرائيل تجاوزت كثيرا تلك القواعد، من دون أن يبدر من حزب الله، ولا من إيران، أية ردة فعل مناسبة، بدعوى التزام «الصبر الاستراتيجي»، إضافة إلى أن كل تلك المداخلات لم تخفف من شدة حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة، طوال الأشهر الست الماضية.

إذاً، فقد انتهى زمن مقاومة حزب الله، علما أننا لا نتحدث هنا عن توقف مدته أسابيع أو أشهر أو بضعة أعوام، وإنما عن الفترة من العام 2000 ـ 2023، باستثناء لحظة خطف الجنديين (2006)، كما قدمنا، قام في غضونها حزب الله بتصريف طاقته، مباشرة أو مداورة، في الداخل اللبناني، أي في الصراعات الداخلية على السلطة، وفي دعم محور إقليمي بعينه، يتأسّس على التحالف بين النظامين الحاكمين في سوريا وإيران، الأمر الذي أسهم في إثارة النعرات الطائفية المذهبية في المجتمعات العربية في المشرق العربي، سيما في العراق وسوريا ولبنان، بخاصة مع انخراطه المباشر، كذراع إقليمية لإيران، في قتل السوريين، مع جملة ميلشيات طائفية تتبع النظام الإيراني.

هكذا بات هذا الحزب إزاء معضلة مزدوجة، فالمقاومة التي تستمدّ مشروعيتها من مقاومتها لإسرائيل توقّفت، والأنكى أنها بدلاً من ذلك باتت تستثمر رصيد قوتها في الداخل اللبناني ضد فرقاء لبنانيين آخرين، وفي مواجهة الشعب السوري، وحتى في العراق واليمن، أي في مقاصد غير تلك التي برر وجوده من أجلها.

وفي الواقع فقد كان ذلك الحزب موضع تساؤل، أو شبهة، منذ إقامته، إزاء ثلاث قضايا، أولاها طابعه المذهبي، فالحزب تأسّس على العصبية المذهبية في تركيبته الحزبية السياسية والعسكرية، واستمر على هذا المنوال طوال تاريخه، منذ أربعة عقود، مما يثير التساؤل المشروع حول كونه حزبا «وطنيا»، بالنظر لعدم شموله في تركيبته لبنانيين من مختلف المكوّنات الطائفية والمذهبية، مع استناده إلى عصبية ومطالب طائفية. وثانيها، تكمن في تبعيته إلى دولة إقليمية معينة، واعتباره ذاته امتداداً سياسياً لها في لبنان، لا سيما أن قيادته لا تنكر مرجعيتها لإيران من الناحيتين السياسية والمذهبية، علما أن هذا الحزب هو الذي أدخل الاعتقاد بمبدأ «ولاية الفقيه» في مذهب الشيّع اللبناني، وهو الأمر الذي عارضه عديد من أئمة الشيعة الكبار في لبنان (كما حدث في النجف بالعراق). وثالثها، إنه ينتمي إلى منظومة الأحزاب الدينية «السلفية»، التي تلعب دوراً كبيراً في تأجيج الصراعات الطائفية والمذهبية في المجتمعات العربية، لا سيما أنه يعتمد سردية «المظلومة» الشيعية، ويشتغل على تنمية عصبيتها في لبنان.

ليس القصد هنا إنكار دور حزب الله في مقاومة إسرائيل (1982-2000)، فمع كل التقدير للتضحيات والبطولات التي قدمها جمهور هذا الحزب ومقاوميه، إلا أنه ينبغي الانتباه أيضاً إلى أن هذه المقاومة، التي ظلت مرتبطة بالتوظيفات الإيرانية، ظلّت أيضاً محدودة في مناوشة إسرائيل على الحدود، ولم يكن لها عمق في الداخل الفلسطيني، فضلاً عن أن هذا الحزب لم يسمح للفلسطينيين، بل ولا حتى لغيره من اللبنانيين، بمواصلة المقاومة من جنوب لبنان، وهذا كان أمرا متعمداً ومقصوداً.

على ذلك، ففي مجال التقييم التاريخي لمقاومة حزب الله، يمكن القول إن هذه المقاومة نجحت ضد إسرائيل على الصعيد التكتيكي فقط، لكنها أخفقت على الصعيد الإستراتيجي (وأنا هنا أستعير مصطلحات بعض مفكري الممانعة والمقاومة). في المقابل يمكن القول أيضاً إن إسرائيل أخفقت تكتيكياً، لكنها نجحت إستراتيجياً. ومثلاً، فهي أخفقت لأن جيشها النظامي يصعب عليه الاستمرار في حرب العصابات، التي تعمل ضمن حاضنة شعبية ومن دون قواعد ثابتة، ولكنها نجحت إستراتيجياً في حرمان حزب الله من مبرّر استمرار المقاومة ضدّها بعد انسحابها من جنوب لبنان.

وفي النهاية فإن مقاومة حزب الله، لم تغيّر في معادلات الصراع والقوة مع إسرائيل، بدليل وقفه المقاومة ضدها، واستمرار هذه الدولة على السياسات الصلفة ذاتها التي تنتهجها إزاء الدول العربية وإزاء الفلسطينيين، وبدليل إن ما فعله في سوريا ولبنان، أفاد إسرائيل أكثر مما أضر بها، وهو ما ينطبق على الدور الإيراني أيضا.

شاهد أيضاً