قبل أن يقتل حسن نصرالله بالقنابل الإسرائيلية الخارقة، كانت هناك غيوم تتجمع في أفق المشرق العربي توحي بأن مرحلة سياسية قد استنفدت طاقتها. لقد ظهر الأمر وكأنها شاخت وذبلت لكنها تعاند من أجل البقاء، لم تعد تلك الشجرة الخضراء التي تتجدد كل ربيع، فقدت كل ربيع، وعوضا عن أوراقها الخضر كان الشوك ينبت في كل غصن. أما بقية الأوراق القليلة فقد أصبحت صفراء توشك على السقوط.
حاول حسن نصرالله المعاندة حين فكر في خوض حرب محدودة، حرب وظيفتها استعادة ألق مقاومة فائتة، مقاومة لم يعد لها من اسمها سوى مخزون هائل من السلاح لا يعرف ربما نصرالله نفسه ماذا يفعل به.
مقاومة لمن؟ لقد مر زمن طويل على مقاومة عدو صفق العرب كلهم لمقاومته في 2006، لكن أحدا لم يخطر بباله أن المقاومة ستفقد البوصلة لتتوجه إلى صدور السوريين الذين خرجوا إلى الشوارع بالملايين مطالبين بالتغيير نحو الكرامة والحرية.
في شوارع دمشق وحمص وحماة وحلب وكل سوريا ماتت مقاومة العدو، انطفأ وجهها الوطني العربي، بدلا منه أصبح وجهها طائفيا دمويا لا يطاق، منذ ذلك الوقت ارتسمت نهاية حزب الله ومعها نهاية الحقبة الإيرانية في المنطقة.
بوجهها الطائفي، وارتكاباتها التي لا تغتفر، لم يعد لها سوى أن تلجأ إلى السلطة السياسية لتستمر بالحياة، لم يعد لها مكان في التاريخ، تاريخ الشعوب. أصبح المكان الذي يمكن أن تعيش فيه مكان السلطة السياسية. تاريخها الدموي السوري أصبح لعنة تلاحقها لتهرب منها نحو السيطرة على لبنان. إنه التمادي، العناد، التعويض عن محبة الناس بالعصبية الطائفية المجردة والإغراء بالمزيد من السلطة.
في طهران حيث الإمام المعصوم المقدس كانت الأرض أيضا تهتز، أصبح النظام ثوبا عتيقا ضيقا ومهترئا لشعب عريق يطمح إلى أن يكون جزءا من العصر وليس جزيرة معزولة خارج العصر، لم يعد العصر يقبل الجزر المعزولة، وأمواجه أصبحت تضرب كل يوم شواطئ الجزيرة الإيرانية.
مع شيخوخة الإمام كان النظام يشيخ ببطء. لقد سقطت كل محاولات تجديده، وبعد انتفاضات شعبية متكررة، قرر الشعب الإيراني تركه ليموت بدلا من الحرب الأهلية.
في لبنان انشغلت “المقاومة” بابتلاع الدولة اللبنانية، أصبحت دولة بوليسية عصبوية، همها ابتلاع وهضم ما تبقى من حريات في لبنان، أما في طهران فكان الهم تصدير أزمة النظام نحو الخارج. أصبح النظام الشائخ يستمد نسغ الحياة من تمدده نحو العراق وسوريا ولبنان وحتى اليمن. في هذا التمدد تختلط طائفية قديمة تم بعثها وكأن الحسين قتل الليلة الفائتة، مع نزعة فارسية قومية تؤمن بإيران الكبرى، إيران التي كانت لفترة طويلة الإمبراطورية الأقوى والأكبر في الشرق، مقابل الغرب اليوناني ثم الرومي.
من أجل ذلك أحس النظام بخطر وجودي حين قامت الثورة السورية، فمشروع التمدد الإمبراطوري هو مشروع بقاء النظام السياسي. وحين يتعرض ذلك المشروع للخطر يصبح وجود النظام في خطر وليس أقل من ذلك.
ذلك كان يخفي إفلاس النظام السياسي الذي لم يعد لديه ما يقدمه للشعوب الإيرانية سوى إحساس مبالغ فيه بالقوة العسكرية والمجد القومي، وأين يمكن صرف مثل ذلك الرصيد سوى بالتمدد والهيمنة الخارجية؟
هكذا وبينما كانت “مقاومة” حسن نصرالله تدخل أزمتها التاريخية وتتحول إلى عصبية طائفية تجد ضالتها في الاستيلاء على لبنان وتشييعه ليلتحق بالجمهورية الإسلامية الإيرانية ويكون جزءا عضويا منها، كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية تدخل أزمتها التاريخية أيضا في موت جذورها الاجتماعية الداخلية وتحولها إلى شجرة يابسة سندها الهيمنة الخارجية والحلم الفارسي.
مقتل حسن نصرالله كان لحظة فارقة في لبنان وطهران، لقد أعلن موته انتهاء محاولة غبية لسيطرة عصبية طائفية حلت محل مقاومة سبق أن ماتت روحها الوطنية في سوريا، على لبنان الصغير المتجذر في الحريات والمنفتح على العصر.
أما طهران فتكاد لا تصدق موت حسن نصرالله وتنظر برعب إلى مستقبل مشروعها الذي تستمد منه البقاء. وهي تدرك أن صناعة حسن نصرالله جديد لم تعد أمرا ممكنا في زمن الانحدار.
لم تقتل القنابل الإسرائيلية حسن نصرالله، لقد قتلته قبل ذلك حربه ضد الشعب السوري وتطلعه نحو الحرية، حين استدارت بندقيته نحو قلب العروبة النابض بدلا من أن تبقى مدافعة عن لبنان وفية للوظيفة التي حملت اسمها قبل أن تخون ذلك الاسم.
وفي طهران ثمة شعور حقيقي بأنها بداية النهاية، لكن نظاما كالنظام السياسي الإيراني لن يستسلم لقدره إلا بعد أن ينفد كل ما في جعبته من أسلحة مختزنة خلال مسيرة طويلة.