في مواجهة أكثر الحروب التجارية تعقيدًا في التاريخ الحديث، أثبتت الصين أنها ليست فقط خصمًا عنيدًا، بل لاعبًا استراتيجيًا يُعيد صياغة معادلات القوة العالمية. خلال فترة رئاسة دونالد ترمب الأولى، وجدت الصين نفسها في قلب نزاع اقتصادي محتدم، بعد أن فرضت واشنطن رسومًا جمركية هائلة على سلع صينية بمئات المليارات من الدولارات، ضمن استراتيجية هدفت إلى كبح الصعود الصيني. لكن بكين لم تتراجع، بل واجهت هذه التحديات بحنكة سياسية ومرونة اقتصادية لافتة، مستندة إلى قاعدة صناعية هائلة، وخزان بشري مدرّب، وقدرة غير مسبوقة على التكيف مع الضغوط. ردّت الصين سريعًا على الرسوم الجمركية الأمريكية بإجراءات مماثلة، مستهدفة قطاعات زراعية وصناعية حساسة في الداخل الأمريكي، وخصوصًا تلك التي تشكل قاعدة انتخابية للرئيس ترمب. وفي الوقت نفسه، عملت على تنويع أسواقها العالمية، ووقّعت اتفاقيات تجارية مع الاتحاد الأوروبي، ودول جنوب شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية، ما خفف من وطأة الضغط الأمريكي. لم تكتفِ بذلك، بل استثمرت بكثافة في مشاريع الحزام والطريق، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، لتشكّل أذرعًا اقتصادية خارج دائرة التأثير الغربي. في السنوات الخمس الماضية، اتخذت الصين خطوات نوعية جعلتها اليوم أكثر استعدادًا لأي جولة جديدة من الحرب التجارية. فقد رفعت من قدرتها الإنتاجية إلى مستويات تاريخية، حيث أصبحت مسؤولة عن نحو 30% من مجمل التصنيع العالمي، مقارنة بـ15% فقط للولايات المتحدة. كما تفوقت على واشنطن في إنتاج السيارات، والصلب، والأسمنت، والألواح الشمسية، وحتى الطائرات بدون طيار. وهي الآن تقود العالم في تركيب الروبوتات الصناعية، وتمتلك أكبر أسطول بحري على الكوكب. أما في مجال التكنولوجيا النووية، فتتفوق على العالم بأكثر من عقد زمني، وتطمح لبناء أكثر من 100 مفاعل نووي خلال العقدين المقبلين، ما يعكس طموحًا لا مثيل له في مجال الطاقة المستدامة.الاقتصاد الصيني تجاوز نظيره الأمريكي من حيث تعادل القوة الشرائية، وأظهر قدرة مذهلة على الحفاظ على النمو رغم الاضطرابات العالمية، بما فيها أزمة كوفيد، واضطرابات سلاسل الإمداد، وركود الأسواق الغربية. لكن الأهم من ذلك أن الصين لم تسعَ لمجرد الصمود، بل لإعادة تشكيل النظام الدولي. فهي تتقدم اليوم لتملأ الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة، التي أضرت بمصداقيتها عبر تفكيك تحالفاتها وفرض رسوم جمركية حتى على حلفائها مثل كندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي، ما أضعف موقعها القيادي وأربك مصالحها الاستراتيجية. رغم التحديات التي تواجه الصين داخليًا، كشيخوخة السكان، وديون القطاع العقاري، والرقابة المشددة على الإنترنت، إلا أن ديناميكيتها الاقتصادية، وتخطيطها الاستراتيجي بعيد المدى، يجعلان من لحظتنا هذه لحظة مفصلية. فالصين لا تواجه أمريكا فقط، بل تُعدّ العالم لمرحلة جديدة من التوازن الدولي، وقد تكون هذه بداية «العصر الصيني» بكل ما تحمله الكلمة من معنى، عصر يتشكل فيه الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا بقلمٍ صيني ووفق معادلات جديدة لا تدور بالضرورة في فلك واشنطن.
*نقلا عن عكاظ