هذه هي سوريا التي نعرفها، وننكرها، ونخشاها. وهذه هي الحرب الاهلية السورية التي كنا على الدوام نستبعدها، ونرفض الاعتراف بأنها حكمت السوريين على مدى عقود، بل قرون، وأحبطت تطلعاتهم نحو وحدة وطنية افتراضية، ها هي اليوم تنتهي عند رقصة الدم التي تؤديها الجموع السورية بحماسة شديدة، وبلا أي وازع أو ضمير، وبلا أي مصلحة سوى السير على درب الانتحار الجماعي.. الذي سبق ان سلكه اللبنانيون، ومن بعدهم عرب كثيرون، وقادهم إما الى المقابر أو المصحات العقلية.
هذه هي سوريا التي قررت الان، وعن سابق تصور وتصميم تصفية حساباتها القديمة دفعة واحدة، ولمرة واحدة وأخيرة، ومعالجة صراعاتها وانقساماتها المتوارثة بالطريقة الوحيدة التي كانت على الدوام، منكرة، محرمة، أو محظورة، ولن تقود إلا الى تحويل زوال الفكرة الوطنية، وفناء الوحدة الاجتماعية..وذلك بعد مذابح متلاحقة، وعمليات تطهير وتهجير طائفي أو عرقي متتالية، يرجح أن تأخذ الوقت الذي استغرقه اللبنانيون أو الذي يمضيه الليبيون والسودانيون واليمنيون.. على خطوط التماس في ما بينهم.
الفارق الوحيد هو أن السوريين لن يجدوا بسهولة من يحميهم من انفسهم، ويوقفهم عند حد ما. أملهم الوحيد في تقصير المسافة الفاصلة عن الخراب التام ، هو ان يكون هناك بالفعل، تدخل خارجي أشعل هذه المرة، المذبحة السورية الكبرى..سواء كان إسرائيلياً أو إيرانياً أو روسياً أو عربياً أو تركياً أو أميركياً. ففي ذلك الامل، ما يمكن أن يفضح المتورطين في الدم السوري، وما يمكن أن يستدعي الأخرين الى التدخل، كوسطاء، ثم الى رعاة مؤتمرات للمصالحة، وربما أيضاً إعادة الاعمار.
عدا ذلك، لا يبقى سوى الدعاء بان تنتهي الحرب الاهلية الموصوفة بسرعة، برابح وخاسر معلوم، وألا تجرجر سوريا اقدامها لسنوات وربما لعقود نحو الهلاك، من دون أفق ومن دون مخرج آخر، يمكن ان توفره الشرائح غير المسلحة من السوريين، الذين تضاءل عددهم هذه الأيام، عندما ظهر ميلٌ عام، لا يستثني حتى النخبة السورية، نحو توزيع الاتهامات والملامات والمسؤوليات في ذروة عمليات الذبح على الهوية، أو نحو استحضار التواريخ والتجارب القاتلة لجميع الشرائح السورية من دون استثناء.
قد يكون توجيه اللوم الى الخارج مفيداً جدا للخالة السورية الراهنة، حتى ولو بلغ حد تكرار الحديث اللبناني الممل عن “حروب الاخرين على أرض لبنان”، مع أن هؤلاء “الاخرين” كانت قوتهم ونسبتهم الى المتحاربين اللبنانيين هزيلة جدا، طوال سنوات الحرب الاهلية اللبنانية.. لكن يفترض ان يكون ذلك الحديث مشفوعاً بنداءات استغاثة لوقف المذبحة الراهنة، بأي ثمن وبأي وقت.
يمكن ان توجه السهام الى إسرائيل التي لم تخف عداءها لمشروع الاستقرار السوري الذي ساد منذ فرار حليفه التاريخي بشار الأسد، والتي اتخذت خطوات عملية نحو تفكيك الاجتماع السوري الهش، ونحو الاستيلاء على مساحات سورية حرجة تطل على العاصمة دمشق. ويمكن ان يجري الدفع في ذلك الاتهام الى حد الإشارة الصريحة الى الصراع الإسرائيلي التركي المكشوف على النفوذ في سوريا، والذي قد يكون سبباً أو دافعاً لسكان الساحل السوري الى التمرد والعصيان على مشروع الدولة التي كانت تقام في سوريا، وبما لا تزال.
ولعله من المفيد أيضا تسليط الضوء على الصراع التركي الروسي على سوريا، باعتباره أحد دوافع المذبحة السورية الراهنة، والتي كان يفترض ان يكون تدخل تركيا لوقفها أسرع وأفعل من تدخلها السابق لترتيب وتوجيه مخطط هيئة تحرير الشام للسيطرة العسكرية والسياسية على دمشق، وذلك لاسباب داخلية تركية لا شك فيها، أهمها الهوية الإسلامية لحكام دمشق الجدد الذين رعتهم تركيا، والهوية العلوية للمتمردين ثم للضحايا المدنيين للمذبحة السورية. وكذا الامر بالنسبة الى موسكو التي يبدو أنها تريد ان تحتفظ بأبعد مسافة ممكنة عن تلك المذبحة، لكي لا تخسر تركيا ولا تستفز إسرائيل ولا تتحدى أميركا.
لائحة المتهمين بالتغول في الدم السوري طويلة، وبينهم العرب الذين أحجموا حتى الان عن رعاية مشروع الدولة العتيدة في سوريا، بناء على شروط، لم يكن بينها تجريم الحرب الاهلية السورية بأي شكل من الاشكال، والتدخل الفوري لوقفها، مهما كلف الامر..قبل ان تصبح تهديداً داخلياً لعدد لا بأس به من البلدان العربية، بينها لبنان طبعا.
يسهل الاستنتاج أن سوريا متروكة لمصيرها الأسود. عصيان اثنتين او ثلاث أقليات من مكوناتها، لا يعني ان فراغ السلطة في دمشق، ولامبالاة الخارج بالمذبحة، هما الأصل. ثمة “شعب كامل” خرج لتصفية حسابات قديمة، لن تزول إلا بمعجزة.
بيروت في 10 /3 / 2025
