من بين أهمّ القضايا المختلف من حولها في الداخل الأميركيّ في الوقت الراهن، تأتي قضية إدارة البيت الأبيض لملف وسائل الإعلام المختلفة في البلاد، لا سيّما تلك التي تتلقّى نوعًا من الدعم الفيدرالي من الحكومة الأميركيّة.
لم يَعُدْ سرًّا القول إن هناك معركة حامية الوطيس تجري بها المقادير بين إدارة الرئيس ترمب، وبين عدد من الوكالات والمؤسسات الإعلامية الشهيرة، وبات التساؤل إلى أيّ حدٍّ ومدٍّ يمكن أن تمضي هذه المواجهة؟ ثم هل هي في صالح مشروع “أميركا أوّلًا”، والذي يبغي سيادة الولايات المتحدة حول العالم؟ ونصل إلى القارعة المتمثّلة في إمكانية استفادة أعداء أميركا الإيديولوجيين من تلك الإجراءات.
على أنه قبل الدخول في عمق المشهد الإعلامي الأميركي الآنيّ، يتوجّب علينا الإشارة إلى وجود أكثر من نوع من أدوات الإعلام في دولة قطبية مثل الولايات المتحدة، ذلك أن هناك تلك المؤسسات المستقلة الخاصة، والتي تعمل بمنطق الربح، ولا يمكن لأيّ إدارة حكومية أن تؤثّر عليها، أو تجبرها على انتهاج خطٍّ فكري ودعائي بعينه، ومنها محطات إذاعية وتلفزيونية وصحافية كبرى، لطالما أحدثت صداعًا شديد الوقع في أدمغة الرؤساء الأميركيين.
غير أن هناك كذلك، قطاعات تعتمد بشكل كبير على الدعم الاتحاديّ الذي توفره الحكومة الفيدرالية، ويمكن حال توقّفه، أن تتعرض لحالة من العطب الشديد.
هل هي فلسفة المنح والمنع؟ أيكون الأمر من قبيل من يدفع للجوقة هو الذي يحدد اللحن؟
واردٌ جدًّا، لا سِيّما أنّ الصراع الدائر حاليًّا في واشنطن، يعلي بدرجة كبيرة من التوجهات الإيديولوجيّة، ويمضي في مسار التقسيم المانوي للتاريخ، أي بين الذين معنا، والذين ضدّنا، الأشرار والأخيار.
في هذا الصدد استمعنا إلى أخبار تتعلق بنوايا الرئيس الأميركي تفكيك الوكالة الأميركية للإعلام العالمي USAGM، وفي ثناياها وحناياها الكثير من المحطات الإذاعية والتلفزيونية الشهيرة تاريخيًّا، من عَيِّنة صوت أميركا، وتلفزيون الحرة، وغيرهما من العلامات البارزة في مسيرة الإعلام الأميركيّ.
الذين لهم دالة على التاريخ الأميركي لا سيما في منتصف القرن العشرين، يتساءلون: “هل واشنطن تعيش حالة جديدة من حالات المكارثيّة؟”
باختصار غير مخلٍّ، تبدو مطاردة عدد من وسائل الإعلام الأميركية اليوم، والتي يرى الرئيس الأميركي أنها مغرقة في ميولها اليسارية، ويتهمها بأنها باتت أبواقًا لترويج الكراهية، المكافئ الموضوعي لما فعله السيناتور جوزيف مكارثي، في الفترة المشار إليها، حين طارت اللوائح التي تحمل الاتّهامات بالميول الى الشيوعية، في وجه العديد من الرموز الاميركية الشهيرة من فنانين وكُتّاب، أدباء ومخرجين، سياسيين وإعلاميين.
هل الرئيس ترمب مخطئ بالمرّة أم مصيب جملةً وتفصيلاً فيما يرتئيه بالنسبة لبعض من دوائر الإعلام الداخلي؟
الشاهد أن الأميركيين هنا ينقسمون إلى جماعتين:
الأولى: ترى أن ما يحدث لا يليق بأميركا، أرض الديمقراطية الغنَّاء، حيث حرية التعبير مقدسة ومكرسة عبر بنود الدستور الأميركي، الذي سار الآباء المؤسسون على نهجه، ما جعل من تلك الحريات “مدينة فوق جبل”، تنير لكل القائمين والقادمين على أرضها، وبما لا يمكن التراجع عنه، الأمر الذي يختصم من سمعة أميركا حول العالم، ونموذجها البيوريتاني، الذي أتاح الفرصة الكاملة في أوائل القرن السابع عشر للهاربين من ضيق الدوغمائيّات الأوروبية التقليدية.
الثانية: يقطع أصحابُها بأن ما ذهب إليه ترمب هو أمر صائب، لا سيما بعد أن اشتدّتْ تلك المؤسسات في غلوائها وتطرفها، وجنحت بالداخل الأميركي على أصعدة عديدة، من عند المواقف السياسية، إلى الترويج للإلحاد والإباحيّة، التفكك الأسري والإجهاض، والعديد من الموبقات التي برع فيها التيار اليسارى المولغ في علمانيته داخل الحزب الديمقراطي، وبما يفوق بمراحل كثيرة جدًّا فكرة الليبرالية ذات المعايير والمقاييس العقلانية.
ولعله من المؤكد أن المشهد الأميركي الحالي الملتهب، في حاجة إلى المزيد من الوقت لكي تهدأ حدّةُ صراعاته، والوصول إلى كلمة سواء، غير أنه حتى ذلك الحين، فإن الإمبراطورية الأميركية المنفلتة، والتعبير للمؤرخ الأميركي الشهير بول كيندي، سوف يتوجب عليها دفع أكلاف هذا الصراع، لا سيما أن هناك دولاً ترى واشنطن أنها مثالٌ للاستبداد الداخلي، ولا تعرف طريقًا للحريات الداخلية بشكل عام، والإعلامية منها بنوع خاصّ تحتفل بما يجري من صراع داخلي أميركي.
لماذا هذا الاحتفال؟
السبب واضح جدًّا، وهو أن تلك المؤسسات الإعلامية كانت ولا تزال سببًا رئيسًا في فضح الكثير من الأوضاع الداخلية ذات الملامح والمعالم الديكتاتورية التي تضر بحريات شعوبها.
على سبيل المثال لطالما كانت إذاعة صوت أميركا وشبكاتها الشقيقة، بالإضافة إلى المساعدات الخارجية الأميركية ومبادراتها الديمقراطية، موضع غضب موسكو وبكين وطهران.
مؤخرًا صرح مسؤولون حكوميون روس لصحيفة “موسكو تايمز”، بأن هذه التخفيضات أسعدت الكرملين، وبلغ الأمر حد وصف شخصيات إعلامية روسية هذه الخطوات بأنها “رائعة”.
أمّا في الصين، فقد أشادت صحيفة “جلوبال تايمز” التابعة للحزب الشيوعي الصيني بقرارات الرئيس ترمب، ووصفت إذاعة صوت أميركا ب” مصنع الأكاذيب”.
في طهران، لم يكن المشهد يختلف كثيرًا، فقد قالت تقارير إن مستشاري آية الله خامنئي، “تباهوا” بقرار الرئيس ترمب، الذي أوقف جميع البث الموجّه إلى إيران.
هل هناك ما تناسته إدارة الرئيس ترمب في هذه المرحلة ؟
المؤكّد أنّ جزءًا كبيرًا من الانتصارات التي حققها الغرب في الحرب الباردة، كانت إعلاميّة، ووقفت وراءها داعمة تلك المؤسسات.
على سبيل المثال كانت إذاعة “أوروبا الحرة” وإذاعة صوت أميركا وإذاعة آسيا الحرة، وغيرها منطلقًا لتعزيز الحريات في أوروبا الغربية، في مواجهة أبواق الاتّحاد السوفيتي، والتي حاولت قتل كل رأي مختلف، حتى انهار جدار برلين.
ولعل الأكثر إثارة في المشهد الإعلامي الأميركي، أنه فيما يقوم ترمب بتخفيضات وإغلاقات وتخلى عن سلاحها أحادي الجانب، يواصل خصوم الولايات المتحدة توسيع حملاتهم التي يصفها الأميركيون بالمخربة.
خذ إليك ما تمتلكه روسيا من وحدات حرب معلوماتية داخل أجهزتها العسكرية والاستخباريّة، عطفًا على قيام الحرس الثوري الإيراني بإنشاء وحدة تحمل اسم “التصميم المعرفي” لتأجيج الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في الفترة التي استبقت الانتخابات الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
هنا لم تكتفِ واشنطن بغمد سيفها الإعلاميّ، بل خلعتْ درعها، فبعد فشل الكونجرس في تجديد تفويض مركز التدخل العالمي GEC العام الماضي، أغلقت وزارة الخارجية هذا المكتب، الذي كشف وواجه النفوذ الروسيّ في إفريقيا وأميركا اللاتينية بفعالية، كما حلت وزارة العدل فرقة العمل المعنية بالتأثير الأجنبي التابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي FBI لتحديد عمليات التأثير ضدّ الأميركيين وملاحقتها قضائيًّا.
إضافةً إلى ذلك، علقت وزارة الأمن الداخلي جهود وكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية CISA لتأمين الانتخابات الأميركية من التدخل الأجنبيّ.
هل تفيد هذه الإجراءات أميركا-ترمب في سعيها لأن تكون قبل الكلّ وربّما فوق الكلّ؟
ربما تحتاج قضية الإعلام في الداخل الأميركي إلى المزيد من المراجعة .
