تستمر الإبادة في غزة، دماراً وقتلاً، ولولا شجاعة أهلها لحصل التهجير أيضاً. تعرّض جنوب لبنان للدمار وللتهجير وقُتل أكثر من 480 شخصاً؛ دخلت الضفة الغربية في مقاومة قوات دولة الاحتلال والمستوطنين منذ الأيام الأولى للحرب على غزّة، وتتكثّف الحملة العسكرية حالياً عليها، وهذا سياق طبيعي؛ فالحرب لم تكن ضدّ غزّة فقط، وليست لأسبابٍ تتعلّق بعملية 7 أكتوبر (2023) من أصله؛ الحرب ضد قيام دولة فلسطينية، وهو ما أقرّته دولة الاحتلال، أخيراً، في مجلسها التشريعي، وهذا يتضمن رفضاً لسلطة رام الله كذلك. وعدا ذلك كله، وجود المستوطنات في الضفّة، وتوسعها المستمر، والتشريعات المؤيدة لها، كلّها أسباب تقول إن الحرب على غزة كانت مُعدّة، وستحصل في أيّة لحظة، وقد حدثت لأكثر من ثمان مرات منذ 2006، وبهدف طمس أيّة حقوق للفلسطينيين. هذا السياق كان يُؤسَّس له قبل “7 أكتوبر”، وعبر الاتفاقيات الإبراهيمية، والخط الاقتصادي من الهند ووصولاً إلى دولة الاحتلال، ومروراً ببعض دول الخليج. ومن هنا، يصبح من الطبيعي أن تقف دول عربية إلى جانب دولة الاحتلال في حربها على غزّة، والقصة لا تتعلق بدعم إيران حركة حماس، لتتخلّى الدول العربية عن “حماس”؛ وهل قضية بحجم فلسطين قضية مناكفة من أصله؟
اليمين المتطرّف الذي أصبح يتحكّم في دولة الاحتلال هو من يقرّر السياسات، وسياساته رافضة فكرة وجود دولة فلسطينية؛ هذا أصل ويجب أن تبنى السياسات العربية عليه. وحالياً، تتعرّض الضفة الغربية وليس فقط شمالها، لعملية تدمير ممنهج لمخيماتها ولبناها التحتية، ويقتل قادتها العسكريون، وسيجري التوسّع في المستوطنات؛ ويخطّط هذا اليمين لإقامة المستوطنات في غزّة نفسها.
لم يكن خيار المقاومة العسكرية خياراً وحيداً، وقد حاولت العمل بالخيار السلمي، قبل 7 أكتوبر، وهناك تحليلات تصدر في دولة الاحتلال ذاتها تقول إن “حماس” لم تكن تخطّط لهذه العملية، ومن ثم، وبغضّ النظر عن أن “حماس” خططت من قبل، وهذا فعل سليم لأيّة مقاومة بلادها محتلة، استغلت دولة الاحتلال الحدث ذاك لتقوم بعملية الحرب. ومنذ 7 اكتوبر ترفض كل المبادرات لإيقاف إطلاق النار أو الانسحاب من غزّة، وتساندها الولايات المتحدة بصورة خاصة في هذا الرفض، والبقاء في محوري فيلادلفيا ونتساريم؛ يحصل ذلك كله، والدول العربية لا تعمل على قطع أيّة علاقات مع دولة الاحتلال باعتباره (أي قطع العلاقة) “موقفاً للتفاوض فقط”، بينما الأخيرة ومن خلفها أميركا تستمر في محاولة السيطرة على غزّة والضفّة الغربية ولن ينجو لبنان من إمكانية الحرب كذلك.
يخضع لبنان لشروط إيران منذ دخل الحرب، وقد التزم حزب الله بحربٍ إسنادية لغزّة منذ 7 أكتوبر، وحتى ردّه على مقتل فؤاد شكر لم يخرج عن دائرة الإسناد، ولكن هل دولة الاحتلال ستكتفي بذلك؟ ربما، في حال تراجع حزب الله إلى جنوب نهر الليطاني، وتطبيق القرار 1107، يمكن التوصّل إلى تسوية ما، علماً أن حزب الله ومن خلفه إيران يؤكدان أن حربهما ستتوقف بتوقف إطلاق النار في غزّة. أجواء الحرب التي تخيّم على عقول قادة دولة الاحتلال تقول إن الحرب ستمتد إلى لبنان سيما أن قادتها يمتلكون رؤية عقائدية ضد كل ما يخص إيران وبالتأكيد العرب، ولكن إيران، وقد رأت كل هذه البوارج الغربية والأميركية في منطقتنا راحت تميل إلى التهدئة، والبحث عن المصالح عبر المفاوضات “المبادئ لا تتناقض مع المفاوضات، هو قولٌ لخامنئي مؤخراً” المشكلة أن دولة الاحتلال ترفض وتماطل إيقاف إطلاق النار ضد غزّة، وها هي تتوسع كثيراً إلى الضفة، فهل هي لن تهاجم حزب الله، وربما إيران؛ الاحتمالات مفتوحة بهذا الاتجاه.
نأى السوريون عمّا يحدث في غزّة، نعم إن مواقف النظام أو المعارضة السورية في أسوأ أحوالها، ولولا بعض المناصرة من سوريين عاديين للغاية، والكاتب منهم، لكان الأمر فاجعة حقيقية. أسبابٌ كثيرة لتفسير تلك المواقف، لكنها خاطئة جملة وتفصيلاً؛ فدولة الاحتلال ضمّت منذ سنوات الجولان، وهي تعلن أنّها لن تتراجع عن ذلك (ومن يجبرها؟). ومن ثم، كان الموقف السليم أن يقف السوريون مع غزّة ومن أجل الجولان مثلاً؛ الوضع الذي خلقه النظام أولاً ومنذ 2011 في سورية خضعت له المعارضة بنأيها، وهناك بعض الأوهام لدى بعض هذه المعارضة أن دولة الاحتلال ستُعيد الجولان حينما يحصل الانتقال الديمقراطي، وهناك من يعوّل على دعمها ليتحقق ذلك الانتقال، وهذا تفكير في غاية السذاجة، وليس فيه من التعقّل شيءٌ؛ إن دولة الاحتلال، تعي نفسها كذلك، وما دامت هي كذلك ستحارب من أجل تفكيك كل الدول العربية، وليس فقط شن الحرب على غزة والضفة ولبنان وضم الجولان؛ دولة الاحتلال معنية فقط بتفكيك الدول العربية، ودعم أيّة نزعات انفصالية فيها، وأوجد دولاً تابعة لها.
غياب دور عربي متضامن مع قضية فلسطين، من الأنظمة والشعوب، لعب الدور الأكبر في تمادي دولة الاحتلال وفي تمادي الدعم الأميركي لها، والمشكلة أن غياب التضامن يؤدي إلى ضعفٍ شديدٍ في حضور الأنظمة وليست الشعوب فقط في لعب دور ما في منطقتنا، بل في الدواخل العربية ذاتها؛ لقد كانت أهم لحظة، هي لحظة الثورات العربية، لإعادة تشكيل الدول العربية دولاً منافِسةً إقليمياً، وللسير بقضية فلسطين نحو دولة على أراضي الـ 67، وربما أكثر، والآن، في غياب المناصرة لغزة، والضفة، وغداً للبنان، ومن قبل لاستعادة الجولان، والصمت وربما المشاركة في الإجهاز على الثورة السورية بوصفها أهم ثورة عربية، لن تتوقف دولة الاحتلال قبل فرض هيمنة كاملة على منطقتنا العربية، وهو ما تضمّنته الاتفاقيات الإبراهيمية، وستعمل الدول التي شكّلته على استئنافه حينما تستقرّ الأمور في غزّة والضفة الغربية ولبنان.
الآن، ما يعيق إعادة تشكيل الخرائط وفقاً لمنظور دولة الاحتلال هي المقاومة، وربما ما تكبدته وما حدث في غزّة من تضحياتٍ ودمارٍ ومن عزلة دولية لدولة الاحتلال يعيد التفكير من قبل كبار قادة العالم في الوصول إلى حلٍّ ما في غزّة والضفة. نعم، لا يمكن التعويل على ذلك، ولكنّه ضمن الاحتمالات كذلك، سيّما أن المقاومة لن تتوقف، وإن توقفت فستعود من جديد.
يقاتل الفلسطينيين وحدهم، والدعم الإيراني وحلفه قاوموا انطلاقاً من مصالحهم أولاً؛ وبغضّ النظر عن ذلك، لم يقف العرب مع غزّة وفلسطين، وهذا أدّى ويؤدّي إلى ضعف الدواخل العربية وأدوارهم الإقليمية والعالمية بالضرورة، ودولة الاحتلال لن تترك منهم إلّا “العبيد”.