بعد العدوان الإسرائيلي الإجرامي على دولة قطر، والانجراف المُذهل نحو سياسة توسّعية توراتية تحتل قلب التيار الرئيسي في السياسة والإعلام الإسرائيليَين، وتقودها أوهام إسرائيل الكبرى وأساطيرها، تحتاج الدول العربية، وفي مقدمتها دول الخليج، إلى مراجعة خياراتها الاستراتيجية جملة وتفصيلاً. الاعتماد الكلي والحصري على الولايات المتحدة عسكرياً وأمنيّاً واستراتيجياً أثبت، للمرة الألف، أنه خيار عديم الفائدة، عند وقت الجدّ تتركُ أميركا حلفاءها يواجهون المخاطر وحدهم، ما يؤكّد أن كل ادّعاءات الشراكة الأميركية والتحالفات تراها واشنطن شراكات وتحالفات من الآخرين معها، وذات اتجاه واحد. عُندما ضُربت منشآت نفطية سعودية سنة 2019، وتردّد أن الحوثيين أو إيران من قام بالضربة، توجّهت الأنظار إلى الشريك والحليف الأميركي كي يقوم بما كان مأمولاً منه سعودياً. يومها أدارت واشنطن ظهرها وكأنها لم تسمع بالخبر. على المنوال نفسه، ادّعت واشنطن أن الضربة الإسرائيلية على قطر حدثت من وراء ظهرها، وهو ادّعاء تفيد شواهد كثيرة بأنه كاذب. كيف تراقب أنظمة الدفاع والمراقبة الجوية الأميركية، والبريطانية والفرنسية أيضاً، المنتشرة في الخليج، أي طير في السماء، وتلاحق ما ينطلق مثلاً من اليمن أو إيران إلى أن يصل إسرائيل، ثم تتعطل كلّها فجأة عندما تنطلق أكثر من عشر طائرات إسرائيلية في سماوات الخليج وتقصف كما تشاء وتتزوّد بالوقود كما تشاء.
مهما قدّمت الدول العربية من خدمات واستثمارات في الولايات المتحدة لا تعتبرها واشنطن حليفةً ولا شريكةً، بل مناطق نفوذ تستخدمها كما تشاء. إسرائيل هي الشريك والحليف الاستراتيجي الأوحد، وبعده بمسافة شاسعة يمكن لبعض الدول أن تتنافس على المرتبة الثانية. تبعاً للعلاقة الاستراتيجية مع إسرائيل، تتمتّع هذه الأخيرة، بحسب مشروعات قانونية يسترشد بها الكونغرس، بميزة المحافظة على التفوق العسكري (Qualitative Military Edge)، التي تعني أن الولايات المتحدة تضمن بقاء إسرائيل متفوّقة من الناحية التكنولوجية العسكرية على كل جيرانها. وتُترجم هذه الميزة من خلال تأكّد الكونغرس والبنتاغون ولجانهما المختصة أن أيّ صفقة عسكرية لأي دولة عربية لن تشكّل تهديداً لا حالياً ولا مستقبلياً على إسرائيل، وأن التكنولوجيا العسكرية والأسلحة المُصدّرة للدول العربية تظل متخلفة بشوط أو شوطين عن التي يجري تصديرها إلى إسرائيل.
ثمة أسئلة صعبة وعديدة تواجه صانع القرار الخليجي، وعليه أن يتأملها ويقدّم عنها إجابات، ولا تقل أهميةً عن تلك الأسئلة ضرورةُ البحث في خيارات وشراكات أمنية جديدة على المديَين، المتوسّط والبعيد، وفكّ الارتهان الكامل للولايات المتحدة تحت مُسمّيات تخفيفية، مثل الشراكات والتحالفات، ما يسقط تلقائياً عند أي اختبار جدّي. وفي سياق البحث عن خيارات أمنية استراتيجية مستقبلية، ثمّة أفكار توردها هذه السطور، ربما تُساهم في التكفير الإيجابي بهذا الشأن. الفكرة الأولى، التوجّه استراتيجياً وأمنياً وعسكرياً نحو الصين، تدريجياً، بحيث يجري تنويع مصادر التسلّح في المرحلة الأولى وكسر الاحتكار الأميركي. ليس من السهل، بطبيعة الحال، تبنّي توجّهٍ كهذا، لكنه ليس مستحيلاً، ولا يجب أن يكون خياراً مُستثنى.
يقول كثيرون إنّ تسليح المنطقة منذ تاريخ استقلال دولها قام وما زال على المصادر الأميركية والأوروبية، وليس من السهل تبديل ذلك كله، بما فيه التدريب والتأهيل والبنية التحتية وغير ذلك كثير. ويقول آخرون إن توجّهاً كهذا يستلزم توافقاً خليجياً أولاً وعربياً ثانياً على تحييد التنافسات الثنائية، وتبني سياسة دفاعية موحّدة (collective security policy) على نحو جدّي وفعلي، بما يعني أنّ أي اعتداء على أيّ دولة يعني اعتداءً على الجميع، ويتطلب الرد من الجميع. التنافس البيني قد يحبط أي توجّه جماعي نحو الصين أو غيرها، لأنه يفتح مساحاتٍ للسلوك الفردي ومواصلة، مثلاً، العلاقة العسكرية مع أميركا، بل ومحاولة تعظيمها من هذه الدولة أو تلك، مستفيدة من توجّه الجميع بعيداً عن الفلك الأميركي.
ثمّة صعوبة أخرى، وقد تتجاوز كل الصعوبات الأخرى، وهي موقف الصين نفسها، وهل تقبل الانخراط في مشروع حساس وفي منطقة بالغة الحساسية مثل الخليج، وتفتح باب الصراع مع الولايات المتحدة على مصراعَيه، في وقتٍ لا تختاره هي؟ الصين مهتمّة بصعودها الوئيد، لتكون القوّة العظمى في العالم وفق برنامجها الزمني الخاص، وبسرعاتها التي تراها مناسبة لها، وليس للآخرين، وأيّ دخول مفاجئ على البرنامج الزمني يجري التعامل معه ببرود، إلّا أنّ شكل هذا الدخول عنصر تسريع ومساعدة للهدف الصيني. إضافة إلى ذلك، تتمتّع إسرائيل بعلاقات استراتيجية وتكنولوجية وأمنية وتجارية عميقة مع الصين، وعلى التحالف العربي أن يطرح بديلاً وبدائل تغري الصين لمقايضة تلك العلاقات بما تستفيده من البلدان العربية.
الفكرة الثانية التي صارت أكثر إلحاحاً على الدول العربية من أي وقت سبق، وخصوصاً الخليجية، التصنيع العسكري المحلي. أمام التغوّل الإسرائيلي الصهيوني الذي يتزايد يوماً بعد يوم، والتوسّع والاحتلال والتهديد الذي يكرّره قادة إسرائيل يومياً، يُفترض التفكير بخيارات استراتيجية مختلفة تماماً عن السابق. عوضاً من صرف مئات المليارات في شراء الأسلحة الغربية التي ستظلّ أقلّ تكنولوجياً عن الأسلحة التي تمتلكها إسرائيل، لا بدّ من الشروع في مشروعات تصنيع عسكري محلي، تتطوّر إلى أن تصبح ذات مردود تجاري ومفتوحة للتصدير. وفي هذه الحالة، يمكن استيراد تكنولوجيا التصنيع من مصادر مُتعدّدة، لا تقتصر على المصادر الغربية وحدها. والأهم من ذلك بناء قدرات علمية ذاتية ومحلية تتمكّن من المعرفة العسكرية (the know how) وتطوّرها. ليأخذ هذا المشروع عشر أو عشرين سنة، لكنّه في النهاية يحرّر البلد المعني من الارتهان للآخرين ولمصادرهم التي لا تقدّم ولا تؤخّر في اللحظات الحاسمة.
ثالث هذه الأفكار، لا بدّ من إعادة الاعتبار للمواثيق العربية المشتركة في الدفاع والحرب، وخصوصاً ميثاق الدفاع العربي المشترك. صحيحٌ أن كثيرين سوف يبتسمون بسخرية عند قراءة هذه العبارة، بسبب حالة الإحباط الجمعي وفشل جامعة الدول العربية ومؤسّساتها، والحكومات قبلها وبعدها. لكن ذلك لا يعني الاستسلام لهذه الحالة، لأنها ليست قدراً دائماً، لا سيّما في ظلّ الظرف الصهيوني الحالي الذي يشير إلى أنّ حالة الغلو والعلو الصهيوني في تصاعد مستمرّ مضطرد، ولن توفّر أي دولة عربية لا شرقاً ولا غرباً. وما قاله الموفد الأميركي إلى سورية ولبنان، توم برّاك، أخيراً، إنّ إسرائيل لم تعد تؤمن بحدود “سايكس بيكو” يوفّر علينا شرحاً كثيراً، خصوصاً وأنه يصدر من مسؤول أميركي يصادق، عوض أن يدين، على ما تؤمن به إسرائيل. هذه الأخيرة تعتبر أن أمنها المقدّس كما تراه وتفسّره هو ما يقرّر حدودها، فإذا رأت مثلاً أن المناهج التعليمية المدرسية في الجزائر تشكّل تهديداً أمنياً لإسرائيل، فإنّ هذا يسوّغ لها قصف الجزائر. وإذا رأت في الشهر الذي يليه أن مصنعاً للحديد والفولاذ في السودان يشكل تهديداً لأمنها فسوف تقصفه. وهذا لا يستثني الدول التي لها معاهدات سلام مع إسرائيل أو المطبّعة معها، والتهديدات المتواترة وشبه اليومية للأردن ومصر أكبر دليل.
العربي الجديد