تقدير موقف: فريق الجيوستراتيجي للدراسات
يُشار في الخطاب السياسي والإعلامي إلى «اتفاقية 9 آذار/مارس» بوصفها المنعطف الأبرز في مسار الصراع السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد وصعود حكومة أحمد الشرع. ففي 9–10 آذار/مارس 2025 وُقِّع تفاهم رسمي بين الحكومة السورية الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) يَعِد بوقف شامل لإطلاق النار، ودمج المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال وشرق سوريا ضمن مؤسسات الدولة، وإقرار حقوقٍ سياسية وثقافية موسّعة لمكوّنات المنطقة، لا سيما الكُرد، على أن تُستكمل إجراءات التنفيذ قبل نهاية 2025. هذا النص يحاول تفكيك سؤالٍ مركزي: هل سنرى تنفيذاً فعلياً وكاملاً لهذا الاتفاق خلال الأفق الزمني المعلن، أم أننا أمام مسارٍ جزئيّ ومشروط وربما متعثر؟
تضمّنت الوثائق والتقارير العلنية بنوداً رئيسة تتعلق بالاعتراف بالمجتمع الكردي كمكوّن أصيل، وبسط سلطة الحكومة المركزية على المعابر والحقول النفطية والمطارات، ودمج قسد في جيشٍ وطني جديد، مع جداولٍ زمنية ولجانٍ تنفيذية مشتركة.
ملخص نصّ الاتفاق ومقتضياته العملية
الإطار السياسي والقانوني: ضمان مشاركة جميع السوريين دون تمييز، والاعتراف بحقوقٍ ثقافية ولغوية مكفولة دستورياً، ورفض دعاوى التقسيم وخطاب الكراهية. هذه الصياغات تمنح الاتفاق شرعية معيارية وتُلزم الطرفين بنصوص قابلة للقياس (تشريعات، لوائح تنفيذية، وتعديلات دستورية).
الإطار الأمني والعسكري: دمج قسد ضمن بنية الجيش الوطني الجديد، وحسم سلسلة القيادة والرتب والرواتب والعقيدة القتالية، مع توحيد غرف العمليات وضبط الانتشار. الموعد المستهدف لإنهاء الدمج هو نهاية 2025.
الإدارة والموارد: انتقال إدارة المعابر والحقول النفطية والمطارات إلى الحكومة المركزية، وإعادة هيكلة المالية العامة والتوريد والخدمات في الشرق والشمال الشرقي ضمن وزارات الدولة، مع ترتيبات خاصة بمراكز احتجاز مقاتلي «داعش».
دوافع كلّ طرف للتنفيذ
أولاً: حسابات حكومة الشرع: تحتاج الحكومة الجديدة إلى توحيد موارد البلاد ومؤسساتها سريعاً لتثبيت الاستقرار وكسب الاعتراف الإقليمي والدولي. بسط السيطرة على الحدود والنفط والمطارات يوفّر رافعة مالية وسيادية ويُضعف شبكات أمراء الحرب وبقايا الولاءات المناطقية. كما أن دمج قسد يحدّ من مخاطر ازدواجية السلاح والقرار، ويقدّم نموذج «تسوية وطنية» يمكن تسويقه داخلياً وخارجياً.
ثانياً: حسابات قسد: تحصل قسد بالمقابل على اعترافٍ مركزي بحقوق المكوّن الكردي وشراكة مضمونة في مؤسسات الدولة، وتتحوّل من قوّة أمر واقع إلى قوّةٍ نظامية بغطاءٍ دستوري وقانوني، مع تعهّداتٍ بإدارةٍ أكثر أمناً لملف المعتقلين الداعشيين وحدودٍ أكثر استقراراً. كما أنّ الاتفاق يخلق مظلّة تفاوضية مع الجوار الإقليمي ودوائر التأثير الدولية بدل الارتهان للغموض الاستراتيجي.
عوائق التنفيذ البنيوية
فجوة الثقة والإرث الحربي: سنوات من الاشتباك والاتهامات المتبادلة خلّفت ذاكرة دمٍ وهواجس متبادلة. إعادة بناء الثقة تتطلب آليات تحقق مستقلة، ومفوضيات تظلم، وجدولةً واضحة لتسليم المواقع الحساسة.
سلسلة القيادة العسكرية: الدمج ليس إجراءً شكلياً. ينبغي حسم قضايا الرتب والتقاعد والرواتب والانضباط والقضاء العسكري والعقيدة القتالية. أي تردد في تراتبية الأوامر يُنتج ازدواجية خطرة وتنازع صلاحيات قد يفجّر هدنة هشة.
تقاطع الأمن الداخلي والإدارة المحلية: هل ستبقى وحدات الأمن الداخلي (الأسايش) بهيكليتها أم تُعاد صياغتها؟ كيف سيُعاد تشكيل المجالس المحلية؟ وما هي نسب التمثيل في المحافظات المختلطة (الحسكة، الرقة، دير الزور)؟ هذه أسئلة «تفاصيل» لكنها هي التنفيذ الحقيقي.
اقتصاديات العائد والتمويل: نقل عائدات النفط والغاز والمعابر إلى الخزينة المركزية يستلزم شفافية مالية وصيغ تقاسم موارد-مصاريف تضمن الخدمات للمنطقة التي تحملت كلفة الحرب ضد «داعش». غياب إطار مالي واضح سيخلق مقاومة محلية صلبة.
التزامن الزمني: الاتفاق حدّد نهاية 2025 سقفاً للتنفيذ، لكن تجارب مماثلة تُظهر أن المسارات الأمنية والقانونية والإدارية تسير بسرعات مختلفة. تأخر أي مسار (مثلاً التشريعات الدستورية) قد يبرّر تأجيل بقية المسارات.
بيئة إقليمية ودولية معقّدة
تركيا: المعارضة التركية التاريخية للـYPG/قسد تُبقي الضغط مرتفعاً على أي صيغة دمج لا تقطع جذرياً مع صلات حزب العمال الكردستاني. أي غموض هنا قد يدفع أنقرة إلى خياراتٍ ميدانية أو تفاهماتٍ بديلة شمالاً، ويخلق أزمة ثقة لدى قسد إن شعرت بأن «ثمن» الدمج سيكون أمنها الحيوي.
الولايات المتحدة وأوروبا: رعايةٌ سياسية ولوجستية خفّفت كوابح التلاقي، مع إشاراتٍ أمريكية إلى تشجيع الاندماج وتيسير بيئة ما بعد الحرب. لكن استمرار الخلافات حول وضعية الوحدات المقاتلة وهيكلية القيادة يحدّ من التقدم الملموس.
روسيا وإيران والعرب: انخراط موسكو وطهران تاريخياً في الملف السوري، إلى جانب ديناميات الانفتاح العربي بعد آذار/مارس (اجتماعات عمّان نموذجاً)، يوفّر شبكة مصالح متشابكة: البعض يفضّل دمجاً سريعاً لضمان الاستقرار، وآخرون يساومون على توقيت وشكل الدمج وفق ترتيبات النفوذ.
مؤشرات التنفيذ حتى الآن (حتى 20 آب/أغسطس 2025)
تثبيت الإطار السياسي: الزيارات المتبادلة واجتماعات دمشق الأخيرة عكست تقدماً شكلياً، لكن قضايا الدمج العسكري بقيت عالقة.
الملف الأمني: سُجِّلت اشتباكات في محيط حلب يوم 4 آب/أغسطس، ما يناقض روح الاتفاق ويشير إلى هشاشة ترتيبات وقف إطلاق النار عندما تنعدم آليات فضّ النزاع الفورية.
المؤسسات والموارد: لا مؤشرات علنية قاطعة على انتقالٍ شاملٍ لإدارة المعابر والحقول، فيما تتحدث مصادر حكومية عن جدولٍ مرحلي؛ ويُلمَّح رسمياً إلى نهاية 2025 كسقفٍ للتسليم.
هذه المؤشرات تَشي بأن المسار يتحرك، لكن بوتيرةٍ متقطعة، وأنّ «قلب» الاتفاق—أي الدمج القيادي والانتشار المشترك—ما زال موضع شدّ وجذب، وهو ما يفسّر حضور «حوادث نكوص» موضعية.
العقد الحرِجة التي ستقرّر المصير
نظام القيادة والسيطرة (C2): الاتفاق على قيادة موحّدة وجغرافيا انتشار واضحة وقواعد اشتباك موحدة، مع آلية لفضّ النزاع خلال ساعات، لا أسابيع. أي «غموض قيادي» سيُترجم اشتباكات موضعية متكرّرة.
معضلة الارتباطات العابرة للحدود: لن ينجح الدمج إذا لم تُحسم—نصاً وممارسةً—علاقة قسد بالـPKK، وبالمقابل علاقة الجيش الوطني الجديد بأي فصائل لها امتدادات إقليمية. هذا ملف سياسي/أمني لا تقني.
الهندسة الدستورية: الاعتراف بالحقوق الثقافية واللغوية يجب أن يتحوّل إلى مواد نافذة، مع ضمانات تمثيلٍ إداري لامركزي حقيقي، وإلا سيبقى «الاعتراف» حبراً على ورق ويُنتج ردّات فعلٍ محلية.
ملف «داعش» والمعتقلين: نقل الحراسة/الإدارة إلى الدولة المركزية يقتضي خطط إيواء، محاكم مختصة، وتمويل مستدام لمنع الانفلات. أي خطأ هنا ستكون كلفته استراتيجية على الأمن الوطني.
السيناريوهات المحتملة حتى نهاية 2025
أ) تنفيذ كامل ومنضبط (احتمال مرجّح: 25–30%)
يقتضي حسم القيادة المشتركة سريعاً، وتمرير حزمة تشريعات، وبدء تسليم المعابر والحقول على مراحل مع ترتيبات أمنٍ حدودي تتطمّنها تفاهمات مع أنقرة. هذا السيناريو يتطلب اندفاعاً دولياً منسّقاً وقدرة حكومية على إدارة «سياسات التعويض» محلياً.
ب) تنفيذٌ جزئيّ مشروط (السيناريو الأرجح: 45–55%)
يتقدّم المسار الإداري (الخدمات، المالية العامة) أسرع من المسار العسكري. تُنشأ ألوية «مختلطة» محدودة، وتبقى وحداتٌ من قسد بهيكلياتٍ شبه مستقلة تحت إشرافٍ مركزي، فيما تُرحَّل قضايا القيادة الكاملة والانتشار الحدودي للعام 2026. هذا ينسجم مع مؤشرات التقدم المتفاوت والاشتباكات الموضعية المسجّلة.
ج) تعثُّر وانكفاء (احتمال: 20–25%)
تتفاقم حوادث الاشتباك وتتصاعد ضغوطٌ إقليمية، فتتجمّد لجان الدمج وتعود خطوط التماس. يبقى الاتفاق مرجعاً خطابياً دون تنفيذ فعلي، مع الإبقاء على قنوات اتصال لتجنّب الانهيار الكامل. هذا السيناريو يصبح أرجح إذا فشلت معالجة العقد الثلاث الحرِجة أعلاه أو إذا استُدرجت الساحة الشمالية إلى موجة تصعيد.
كيف يقاس «التنفيذ» عملياً؟
مؤسساتياً: صدور مراسيم ولوائح تُحدّد نسب التمثيل الإداري، آليات التوظيف والميزانيات، ومراجعة من ديوان محاسبة مستقل.
عسكرياً: أوامر حركة واندماج، جداول رواتب موحّدة، قيود سلاح، ونظام عقوبات وانضباط موحّد.
أمن الحدود والموارد: محاضر تسليم للمعابر والحقول والمطارات، وتقارير تحصيل وإيراد تُدرج في الموازنة.
المساءلة والشفافية: لجنة تنفيذية مشتركة تنشر تقارير شهرية، مع قناة شكاوى عامة وآلية فضّ نزاع خلال 72 ساعة.
تقدير موقف
حتى تاريخ 20 آب/أغسطس 2025، تُفيد الوقائع الموثّقة بأن الاتفاق قائمٌ سياسياً ويحقّق اختراقاتٍ متفرقة، لكنه يواجه تعثّراتٍ جدّية في الشق العسكري والحدودي، ظهرت بعضُها في اشتباكات حلب مطلع آب/أغسطس، وفي تسريباتٍ وتصريحاتٍ تشير إلى خلافاتٍ حول نمط الدمج ووضعية الوحدات. بناءً على ذلك، الراجحُ هو سيناريو التنفيذ الجزئيّ المشروط مع احتمال ترحيل العناصر الأكثر حساسية إلى ما بعد نهاية 2025، ما لم تُحسم سريعاً ملفات القيادة المشتركة، وضبط الحدود، والهندسة الدستورية للحقوق والتمثيل.
إن جرى تثبيت آليات تنفيذٍ دقيقة وشفافة، وجرى تحييد ضغط العوامل الإقليمية، فسيُترجَم الاتفاق إلى بنية دولةٍ أقل هشاشة وأكثر شمولاً. أمّا إن بقيت «تفاصيل» القيادة والموارد معلّقة، فسنرى مزيجاً من التقدم الإداري والجمود العسكري، مع خطر انتكاساتٍ موضعية تُبقي السؤال مفتوحاً.