هل فقدت إسرائيل حقّها في الوجود؟

نيقولاوس فان دام *

نيقولاوس فان دام يكتب –  هل فقدت إسرائيل حقّها في الوجود؟

– 29/ 7/2025

تتحمّل إسرائيل مسؤولية سلسلة لا تنتهي من جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان، تعود إلى بدايات تأسيسها عام 1948. بل كان القادة الصهاينة مسؤولين عن جرائم فظيعة، حتى قبل إعلان قيام “دولة إسرائيل”. وبذلك، يمكن القول إن إسرائيل تأسّست على أساس جرائم حرب، وتطهير عرقي، وأشكال أخرى من انتهاك حقوق الإنسان. ومع ذلك، جرى قبولها عضواً كامل العضوية في الأمم المتحدة عام 1949، بشرط أن تحترم الوضع الدولي للقدس، وأن تقبل عودة اللاجئين الفلسطينيين أو تعويضهم (كما ورد في قراري الأمم المتحدة 181 لعام 1947 و194 لعام 1948)، غير أنها لم تلتزم مطلقاً بأيٍّ من هذين القرارين الأمميين، تماماً كما تجاهلت قراراتٍ عديدة للأمم المتحدة الأخرى. وفي انسجام مع هذا النمط من السلوك، مزّق المندوب الإسرائيلي الدائم لدى الأمم المتحدة ميثاق الأمم المتحدة في جلسة عامة عام 2024، لمجرّد أن إسرائيل لم توافق على قرار صادر عن الأمم المتحدة، في تعبير أقصى عن الغطرسة والاستفزاز الصهيوني. ودولة تتصرّف على هذا النحو لا مكان لها في الأمم المتحدة إطلاقاً.

إلى جانب الحرب على غزّة، ارتكبت إسرائيل سنوات طويلة جرائم حربٍ لا تُحصى في الضفة والقدس الشرقية. وقصفت بلدانا عربية، ونفذت اغتيالات فاقت ما نفذته دول أخرى منذ الحرب العالمية الثانية

وإذا كانت إسرائيل قد امتلكت يوماً ما يمكن تسميته “حقّ الوجود”، فإن السؤال المطروح حالياً ما إذا كانت قد فقدته منذ زمن بعيد. وقد أصبحت هذه المسألة أكثر إلحاحاً خلال الحرب على غزة (2023 – …). فإلى جانب هذه الحرب، ارتكبت إسرائيل سنوات طويلة جرائم حربٍ لا تُحصى في الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية. ولتسهيل الأمر، لن أتطرّق هنا إلى القصف الإسرائيلي (حسب الترتيب الأبجدي) لكل من: الأردن، إيران، السودان، العراق، اليمن، تونس، سورية، لبنان، ومصر، ولا إلى حقيقة أن إسرائيل، من خلال آلاف عمليات الاغتيال التي نفذتها، قد قتلت أشخاصاً عديدين خارج حدودها بما يفوق أي دولة أخرى منذ الحرب العالمية الثانية.

قامت معظم الدول الغربية، التي طالما رفعت شعار “لن يتكرّر ذلك أبدًا” بعد الحرب العالمية الثانية، ليس فقط بتجاهل هذه السياسات الإسرائيلية الإجرامية، بل وبدعمها بشكل مباشر. وبهذا تكون شريكةً في جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ترتكبها إسرائيل. وهكذا أصبح “لن يتكرّر أبداً” في الواقع “يتكرّر مراراً وتكراراً”، لأن كثيرين، على ما يبدو، لم يتعلموا شيئاً من دروس الماضي. ولا يوجد أي مؤشّر على أن إسرائيل ستغيّر سياساتها الإجرامية إلى الأفضل، بل تزداد الأفعال الإسرائيلية عنفاً وإجراماً. ومن ثم، تزداد احتمالية زوال إسرائيل بصفتها دولة صهيونية يوماً بعد يوم. وقد كتبتُ من قبل عن هذا الموضوع التاريخي، ومفادُه بأن التاريخ يُظهر أن “الدول تأتي وتذهب”.

من الناحية النظرية، كان في وسع الولايات المتحدة أن تجبر إسرائيل على تقديم تنازلاتٍ للوصول إلى تسوية سلمية، لكنها لا تفعل، ففي الظروف الحالية، لا يمكن لأي مرشّح رئاسي أميركي أن يُنتخب من دون أن يقدّم دعماً شبه غير مشروط لإسرائيل. ويُعزى ذلك إلى قوة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وخارجها.

قد يستغرق زوال إسرائيل الدولة الصهيونية أجيالًا عدة من الناحية العملية، لكن قادتها المتطرّفين الحاليين قد ضمنوا، في كل الأحوال، أن هذا الاحتمال بات أكثر ترجيحاً من أي وقت مضى، ما لم تُجبر إسرائيل بطريقةٍ ما على القبول بحل سلمي مقبول، غير أن ميزان القوى القائم حاليّاً لا يشير إلى أن ذلك سيحدُث. ووفقاً لوسائل إعلام إسرائيلية، قام رئيس جهاز “الموساد”، جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، بحملة ضغط في الولايات المتحدة في يوليو/ تموز الجاري للحصول على دعم لخطة “الترانسفير” (التطهير العرقي) للفلسطينيين من قطاع غزّة، وحثّ الولايات المتحدة على إقناع دول أخرى باستيعاب مئات آلاف من الفلسطينيين. ولكن لا ينبغي مكافأة إسرائيل على جرائمها، ولذلك ينبغي قلب منطق هذا المقترح رأساً على عقب، فالدول التي دعمت إسرائيل دعماً غير مشروط عقوداً هي التي ينبغي تشجيعها على استقبال ملايين اليهود الصهاينة من إسرائيل، حتى يتمكّن الفلسطينيون أخيراً من العودة إلى وطنهم.

يمكن لليهود الصهاينة في إسرائيل أن يستقروا بسهولة في نحو 75 دولة يبدو أنهم مرحّب بهم فيها بشكل خاص: في الولايات المتحدة بولاياتها الخمسين، وفي حوالي 25 من دول الاتحاد الأوروبي. ومؤكّد أن هذه الدول ستكون متحمّسة لاستقبال “أصدقائها” من اليهود الصهاينة المجرمين، على الأقل، هذا ما يُفترض استنادًا إلى دعمها غير المشروط لإسرائيل.

ولكن الواقع، بالطبع، مختلف تماماً، فكما أن اللورد بلفور المعادي للسامية (صاحب وعد بلفور الشهير عام 1917) لم يكن يريد لليهود المضطهدين في أوروبا الشرقية وروسيا أن يأتوا إلى أوروبا الغربية، بل فضّل أن يُرسلوا إلى فلسطين، فإن معظم داعمي إسرائيل المتحمّسين اليوم لا يرغبون، في حقيقة الأمر، باستقبال اليهود الصهاينة من إسرائيل في بلدانهم أيضاً. إنهم يفضّلون تحميل العبء على دول وشعوب أخرى. والشعار السائد لا يزال: “يجب حل المشكلة داخل المنطقة”.

المشكلات التي تسبّبت بها إسرائيل، وهي دولة وُلدت من رحم معاداة السامية الأوروبية، يُراد تحميلها للشعوب العربية في الشرق الأوسط

المشكلات التي تسبّبت بها إسرائيل، وهي دولة وُلدت من رحم معاداة السامية الأوروبية، يُراد تحميلها للشعوب العربية في الشرق الأوسط، التي لم تكن لها أي علاقة أصلًا بمعاداة السامية الأوروبية. ولا تزال لدى دول الاتحاد الأوروبي فرصة لتغيير المسار، إذا ما اتخذت الإجراءات اللازمة ضد إسرائيل، بما في ذلك فرض العقوبات: مثل وقف تصدير الأسلحة إليها، ووقف استيراد البضائع من الأراضي التي تحتلها إسرائيل أو من الحكومة المسؤولة عنها، وإلغاء اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، وحظر المعاملات المالية مع البنوك المرتبطة بإسرائيل، ومنع دخول الإسرائيليين المتورّطين في جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان إلى دول الاتحاد الأوروبي، وملاحقتهم قضائيّاً. وسيكون اتخاذ مثل هذه الإجراءات في مصلحة بقاء إسرائيل نفسها. لذلك، من يريد الخير الحقيقي لإسرائيل عليه أن يفرض عليها السلام فرضاً.

أما إذا استمرّت دول الاتحاد الأوروبي في رفض محاسبة إسرائيل على كل هذه الجرائم الخطيرة، ورفضت أيضاً اتخاذ تدابير مناسبة ضدها، بما في ذلك فرض العقوبات، فإنها تساهم بذلك في فقدان إسرائيل، في لحظة ما، حقّها في الوجود، تماماً كما حصل مع ألمانيا النازية وكمبوديا في عهد بول بوت.

للشعوب، بما في ذلك الفلسطينيون واليهود، حقّ في الوجود؛ لكنه لا ينطبق تلقائيّاً على الدول التي تمثل هذه الشعوب، ولا سيما عندما تكون مسؤولة عن جرائم حرب جسيمة وانتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان.

* سفير هولندي سابق لدى العراق ومصر وتركيا وألمانيا وإندونيسيا، ومبعوث خاص إلى سورية. عمل دبلوماسياً في لبنان والأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة وليبيا. مؤلف كتابي “الصراع على السلطة في سورية” و”تدمير وطن. الحرب الأهلية في سورية” ، عن العربي الجديد .