هل مات الضّمير الغائب؟

محمد علي طه

كانت الصّور على شاشة التّلفاز مفاجئة ومذهلة في صباح ذلك السّبت السّابع من أكتوبر فتساءلتُ.. هل ما أراه حقيقة أم خيال؟

اتّصلت بصديقي مصطفى كي أعتذر له عن عدم مشاركتي في النّشاط الثّقافيّ في فندق رمادا في مدينة البشارة في ذلك النّهار بسبب رحيل صديقي الشّاعر حسين مهنّا الّذي فاجأني أيضًا رحيله وأحزنني. ومن الواجب الأخلاقيّ أن أسافر وزوجتي لقرية البقيعة الجليليّة لوداع جثمانه وتعزيّة زوجته الفاضلة. كان من الممكن أن أكتفي برسالة اعتذار الكترونيّة الى صديقي مصطفى ولكنّني كنت أبحث عن صديقٍ لأشاطره دهشتي وقلقي ومخاوفي ممّا أشاهده على شاشة التّلفاز، تلك المشاهد الّتي ذكّرتني بمقولة “بيت العنكبوت” أو بأساطير ألف ليلة وليلة ومدينة النّيام.

انتصب أمامي سؤالٌ خطير: وماذا بعد؟ وعلى ماذا اعتمد هؤلاء الرّجال حينما قاموا بهذا العمل الحربيّ؟ هل قدرّوا؟ هل فكرّوا؟ هل توقّعوا الثّمن الغالي جدّا الّذي سيدفعه شعبنا؟ هل قرأوا التّاريخ؟ هل يعرفون خطورة الوحش الجريح؟ هل نسوا أساطير الانتقام المكتوبة بالدّم الّتي يعرفها الرّجال ولن تنساها النّساء، الّتي يعرفها أبناء المخيّمات في قطاع غزّة الّذين تركوا فناجين قهوتهم مملوءة في بيوتهم الدّافئة في يافا وعسقلان والمجيدل وأسدود؟ الّذين تركوا زيتهم في الخوابي وطحينهم وخبزهم في المعاجن!

كان الفعل وكان الفاعل وكان المفعول به والمفعول معه إلّا أنّ سؤالًا كبيرًا برز أمام عينيّ: ماذا عن ردّ الفعل؟ وماذا عن الجار والمجرور والمضاف إليه وماذا عن المنصوب بنزع الخافض أيضًا؟

هل فكرّوا بما سيجري لبيت لاهيا وبيت حانون وحيّ الرّمال وجباليا والشّجاعيّة والمواصي وخان يونس ورفح و…و…و…؟ وهل سيخرج يونس من جوف الحوت؟ وهل سيجد الشّاطئ ما زال ذهبيًا؟

يا أطفال رفح!َ منذ حزيران 1967 وأنتم، جيلًا وراء جيل، في الخطّ الأوّل من خطوط المواجهة، تعدون في أزّقة الحارات وراء طابة بسيطة بين قذيفة وبين قذيفة، وبين ذراع وبين ساق، وبين جثّة وبين جثمان، وتحبّون الحياة ما استطعتم إليها سبيلا.

سيطر الفعل مات على صفحات القاموس من الألف إلى الياء. سيطر الفعل مات بحروفه: الميم ميم الموت، وميم المُحال، وميم المقت، وميم ما زال وأمّا الألف فهي ألف أبجد هوّز، هي الحرف الثّاني في الصّاروخ والحرف الثّالث في الرّصاصة والحرف الرّابع في ملاك الموت، وأمّا التّاء فهي تاء التّفاهة وتاء التّراب وتاء تبّت يدّ أبي لهب وتب، ومعذرة لشاعرنا الدّرويش.!

ماتت المسيرات وماتت المظاهرات ومات الاحتجاج ومات معنى الفعل. كان هناك مجزرة اسمها مجزرة دير ياسين، ومجزرة الطّنطورة، ومجزرة كفر قاسم، ومجزرة صبرا وشتيلا، ومجازر أخرى فقد فيها شعبنا مئات الشّهداء وأمّا اليوم فماتت الأعداد، وصارت المجزرة شيئًا يوميًّا عاديًّا تحدث في كلّ يوم بل في كلّ نهار بل في كلّ ساعة وما عُدنا نُحصي مجازرنا.

يدفع شعبنا آلاف الشّهداء ثمنًا لحلم قائد ساديّ.

يدفع شعبنا مئات الشّهداء ثمنًا لمحادثات وقف إطلاق النّار.

يدفع شعبنا مئات الشّهداء ثمنًا لتوقيع اتّفاقيّة وقف إطلاق النّار.

يدفع شعبنا مئات الشّهداء ثمنًا لتزويده بالموادّ الغذائيّة.

يدفع شعبنا مئات الشّهداء ثمنًا لتزويده بشربة ماء.

يدفع شعبنا مئات الشّهداء لترميم ائتلاف حكومة نتنياهو وعودة بن غفير إليها.

يدفع شعبنا مئات الشّهداء للمصادقة على ميزانيّة حكومة نتنياهو.

يدفع شعبنا الشّهداء ويدفع ويدفع منذ مائة عام.

يدفع شهيدًا وشهيدةً، ويدفع شهداء وشهيدات.

ما أغلى الثّمن.

ما أكبر الثّمن.

وما أغلى الحياة.

انهض انهض يا ابن مريم!

ما زلنا نتفاجأ ونتفاجأ ونتفاجأ وندفع وندفع وندفع.