تنبثق إشكالية إحـضار الزمن في الزمن من قلب تجربة الإنسان الوجودية، حيث يلتقي الماضي بالحاضر في فعلٍ مستمر يُعيد تشكيل إدراكنا للوجود. إن سؤالنا عن إمكانية “تزمين الذاكرة” ليس مجرد تمرين فلسفي نظري، بل هو محاولة لفهم كيفية تقاطع الزمن النفسي مع الزمن الكوني، وكيف تنسج الذاكرة أفقًا للحياة الإنسانية بين ما كان وما هو كائن.
الفينومينولوجيا والذاكرة؛
إذا أمعنّا النظر في إسهامات هوسرل، نجد أنّه قدّم للذاكرة والزمان عمقًا تحليليًا لم يُستكشف من قبل في الفلسفة التقليدية. فقد رأى هوسرل أنّ الوعي ليس مجرد سلسلة من اللحظات المتجاورة، بل هو بنية زمنية متكاملة: كل حاضر يحوي بذور الماضي، وكل استدعاء للذاكرة هو استحضار للحظات سابقة حية داخل الحاضر. بهذا المعنى، “إحضار الزمن في الزمن” ليس تناقضًا، بل فعلٌ بنيوي للوعي الإنساني.
ميرلو بونتي، من جهته، أضاف بُعدًا جسديًا وحسيًا لتجربة الزمن، مؤكّدًا أنّ إدراكنا الزمني ليس مجرد أفكار مجردة، بل مرتبط بجسدية الإنسان وعلاقته بالعالم المحسوس. فالذاكرة، عنده، لا تستحضر الماضي بمعزل عن الحاضر الحسي؛ بل تصنع لحظة إدراكية جديدة، حيث يلتقي الماضي بالحاضر في تجربة متماهية ومتصلة.
ريكور، الذي جمع بين الفينومينولوجيا والتحليل السيميائي، ركّز على العلاقة بين الذاكرة والزمان من منظور سردي. فالزمن عند ريكور ليس مجرد إطار مادي، بل هو أفق لتأويل الأحداث. إن استحضار الماضي في الحاضر ليس تكرارًا ميكانيكياً، بل هو “إعادة كتابة للحظة الماضية” ضمن سياق جديد، بحيث يتحقق تزمين الذاكرة في الزمن ذاته.
_ التزمين: استحضار الماضي والحاضر والمستقبل.
إذا اعتبرنا أنّ الذاكرة تنتمي إلى الماضي، فكيف يمكن لهذا الماضي أن يكون حاضرًا؟ الإجابة تكمن في مفهوم التزمين: أي القدرة على إدخال الأحداث الماضية في تدفق الحاضر بحيث يصبح لها تأثير مباشر على اللحظة الراهنة وعلى إدراك المستقبل. هذا التفاعل هو ما يجعل من الذاكرة فعلًا نشطًا، لا مجرد أرشيف سلبي. كما يقول أوغسطينوس: “ما هو الزمن؟ إن لم أسأل أحدًا أعلمه، وإذا سألتُ لم أعد أعلمه”. هنا يكمن سرّ الزمن: هو موجودٌ فينا حين نستحضره، لكنه لا يُمسك إلا من خلال وعينا به.
_صور وإدراك وخيال:
الذاكرة، إذًا، تتقاطع مع الصورة والخيال والإدراك، فهي تصنع “لحظة زمنية مركّبة” حيث يتسنى للعقل أن يرى الماضي من منظور الحاضر. أفلاطون، في نظرية المثل، يربط المعرفة بالتذكر، معتبرًا أنّ ما ندركه من الحاضر ليس إلا إعادة لإشارات الماضي المثالي، أي أنّنا بالفعل نحضر الزمن في الزمن. وأرسطو أيضًا ربط الذاكرة بالزمن بوصفه استحضارًا للصور الماضية بحيث يحسّ الإنسان بأنها مضت، لكنها تُعاش في الآن.
_الاستنتاج:
إذن، هل يستقيم إحـضار الزمن في الزمن؟ الفينومينولوجيا والتأملات الفلسفية الكبرى تؤكد أنّه يستقيم، لكنه فعل دقيق وحسّاس. إن استحضار الماضي في الحاضر ليس محاكاة آلية، بل هو إعادة خلق اللحظة الماضية ضمن سياق جديد، وهو ما نسميه “تزمين الذاكرة”. في هذا الفعل تتكشف قدرة الإنسان على الربط بين الحاضر والماضي والمستقبل، وعلى فهم ذاته والعالم من خلال أفق زمني متصل وديناميكي.
