لدى المقاربة الحقيقية لجذور إجرام دولة الاحتلال الإسرائيلي لا يمكن فصل هذا الإجرام بحق الشعبين الفلسطيني واللبناني أخيراً، عن الموجة الجديدة من توحُّش دول الاستعمار القديم وقد مسَّ ظفرُ المقاومة الفلسطينية وحشَها المدلل القابع فوق أرض فلسطين، في عملية طوفان الأقصى، فأطلق عنصرية تلك الدول تجاه كل من لا ينتمي للغرب، ومنهم الشعب الفلسطيني الذي جرّدوه من إنسانيّته، وأعطوا الإسرائيليين الحق بالقتل حتى إفنائه. ولا يمكن لأي فعلٍ مقاومٍ أن يوقف موجة التوحّش تلك، إلا بالعمل على كل الجبهات، ومنها أن تحاول دولٌ أو مؤسّسات طرح إعادة تصنيف “الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، بعدما صنّفت منظمة العفو الدولية دولةَ الاحتلال، قبل سنتين، دولةَ أبارتهايد، وبعد أن اكتمل بناء أكبر صرح من صروح الفصل العنصري في العالم، الجدار العازل، في الضفة الغربية، لما يمكن لهذا التصنيف أن يفعله في نفوس كثيرين في العالم ومواقفهم ممن لا يتقبلون الممارسة العنصرية وأصحابها.
لبّى زعماء دول الغرب دعوة رئيس مجلس الحرب الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لزيارة تل أبيب والتضامن مع كيانه عشيّة عملية طوفان الأقصى، فتقاطر هؤلاء وتزاحموا متدافعين للقيام بتلك المهمّة، غير أنهم لم يأتوا سوى ليعطوا دولة الاحتلال رخصةً للقتل، بحجّة “الحقّ بالدفاع عن نفسها”، وهو ما لقي طريقه إلى التنفيذ في حرب الإبادة الجارية في قطاع غزّة من أكثر من سنة. كانت مورثات الاستعمار القديم التي ما زالت تجري في عروق أولئك الزعماء ما دفعهم إلى أن يتخذوا ذلك الموقف، خصوصاً بعدما لمسوا في عملية طوفان الأقصى نزعة تحريرٍ ظنّوا أنها ماتت لدى ضعفاء هذا الكوكب. ثم تبيَّنَ أن زعماء الغرب استطابوا عملية تقتيل الفلسطينيين وتدمير حياتهم، وربما أدمنوا مشاهد الدم الفلسطيني الذي يسيل يومياً، والمجازر التي يرتكبها الإسرائيليون على الهواء مباشرة، فكان سكوتهم عن تلك المجازر بمثابة تجديد إجازة القتل التي أعطوها لنتنياهو. ولا تنفصل مطالبة الرئيس الأميركي المُعاد انتخابه، دونالد ترامب، نتنياهو بالإسراع بتنفيذ المهمّة من أجل وقف الحرب في القطاع، عن تلك الإجازة وعن الدعوة إلى مزيدٍ من القتل.
لو لم تجد الجمعية العامة للأمم المتحدة التي انعقدت سنة 1975، في الصهيونية الخطر الأكثر تهديداً على مستوى العالم، لما اعتمدت حينها قرارها رقم 3379 أن “الصهيونية شكلٌ من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، ولما ضمَّنت القرار عينه مطالبة “جميع الدول مقاومة الصهيونية” التي وجدت أنها “تشكّل خطراً على الأمن والسلم العالميين”. الآن وقد أقامت الصهيونية دولة أبارتهايد تشابكت مصالحها مع مصالح دول الغرب وزعمائه، ومع قوى السوق المتوحّشة والمجمّعات العسكرية الحاكمة فيه، بدأ خطرها على الأمن والسلم العالميين يظهر بأشكاله الدموية في الحرب الإسرائيلية على الشعبيْن، الفلسطيني واللبناني، وفي الحرب الإسرائيلية غير المعلنة على دول المنطقة الأخرى، والتي تنفّذها بضرباتٍ يوميةٍ تطاول الأراضي السورية، وأخرى أصابت إيران واليمن، وربما العراق قريباً، وهو ما يهدّد الأمن والسلم العالميين وليس المنطقة وحدها.
لمست دولة الاحتلال، سنة 1991، ومن خلفها الصهيونية العالمية، والمجتمع الدولي المتبنّي السياسة الإسرائيلية، تضعضعاً في المجموعة العربية وخلافات أضعفتها، بعدما انهارت مجموعة الدول الاشتراكية، وتراجعت منظمة دول عدم الانحياز وقوى حركات التحرّر الوطني العالمية التي كانت تساند القضية الفلسطينية، لذلك ضغطت على الأمم المتحدة من أجل إلغاء قرار تصنيفها شكلاً من أشكال العنصرية. كما كان إلغاء القرار شرطاً وضعته قبل مشاركتها في مؤتمر مدريد للسلام في تلك السنة. حينها لم يكن الجدار العازل الذي شيده الاحتلال في الضفة الغربية، ويعدّ شكلاً من التمييز العنصري، قد تم بناؤه بعد.
للجدار العازل في الضفة الغربية وظيفة لم تُنَط بأي بناء شيده إنسان من قبل، فهو يفصل المناطق الفلسطينية عن المناطق الإسرائيلية ويجعل المناطق الفلسطينية جزراً متناثرة. جدار طويل وأفعواني يقدَّر معهد الأبحاث التطبيقية بالقدس أن يصل طوله إلى 770. وهو يقضم وحده 39% من مساحة الضفة لأن عرضه في بعض المناطق يبلغ 60 متراً، يشغله جدار إسمنتي يبلغ ارتفاعه ثمانية أمتار وعلى جانبيه أحزمة أسلاك شائكة وخنادق وطرق ترابية وطريق إسفلتية لتسيير الدوريات، على جانبيها طرق رملية لاقتفاء أثر المتسللين، وحواجز وأجهزة إنذار. ويكفي هذا الجدار وحدَه ليعطي لدولة الاحتلال هويتها الحقيقية، دولةَ فصلٍ عنصري. اللافت أنه وبعد سنة واحدة فقط من إلغاء قرار تصنيف الصهيونية عنصرية، طرح رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، فكرة الفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وطالب بوضع خطّة لتنفيذها. ثم بقيت الفكرة تُدرس إلى أن نضجت، وأخذت طريقها إلى التنفيذ عبر الجدار بشكله الحالي، والذي بدأت عمليات البناء فيه سنة 2002.
إذا كانت المجموعة العربية قد فشلت، سنة 2003، في الحصول على قرار من مجلس الأمن لإلغاء مشروع الجدار، إلا أنها لم تستطع إثارة موضوعه بوصفه من أشكال الممارسة العنصرية. لكن منظمة العفو الدولية وجدت في انتهاكات إسرائيلية كثيرة ما يبيّن أن دولة الاحتلال الإسرائيلي دولة فصل عنصري. وفي تقريرها الذي أصدرته سنة 2022 “نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين: نظامٌ قاسٍ يقوم على الهيمنة وجريمة ضد الإنسانية”، صنّفت المنظمة مصادرة الأراضي والممتلكات الفلسطينية والقتل خارج القانون والترحيل الجماعي والنقل القسري وتقييد حرية التنقل وحرمان الفلسطينيين من حقوق المواطنة والجنسية انتهاكاتٍ تشكّل بمجملها أجزاء من نظام يرقى إلى مستوى الفصل العنصري بموجب القانون الدولي. وهي انتهاكاتٌ أصدرت “هيومن رايتس ووتش”، قبل أيام، تقريراً رصدت فيه حصولها خلال الحرب الجارية على غزّة، وصنفتها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وقبل ذلك، لدينا تهمة ارتكاب دولة الكيان جريمة الإبادة الجماعية في غزّة في الدعوى المرفوعة ضدها أمام محكمة العدل الدولية. وكذلك طلب المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه المُقال، يوآف غالانت، على خلفية اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في غزّة، وجميعها وقائع تدعم المطالبة بتصنيف إسرائيل بالعنصرية.
تعرف دولة الاحتلال أن اتهامها بالعنصرية يعد بمثابة الاغتيال المعنوي لها ولقادتها وضباطها وفضيحة أمام شعوب الغرب، وهي التي تحاول الظهور بمظهر الضحية التي تدافع عن نفسها. ومن هنا تأتي أهمية أن يعاد التفكير بوسائل لإعادة الأمم المتحدة تصنيف الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري. مهمّة يجب أن تبادر إليها مؤسّسات على مستوى كبير من الانتشار الدولي، وربما يجري لأجلها تأسيس منظمات ومؤسّسات جديدة يقِف عملها على هذه المهمّة، وهي من أشكال الهجوم الذي ربما يُعَدُّ الوحيدَ الذي ليس لدى دولة الاحتلال قببٌ حديدية تصدّه.