هيبة الدولة: حين تستمد السلطة شرعيتها من انتظام مؤسساتها لا من غِلظة قبضتها:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

 

ليست هيبة الدولة صفةً تُستجدى بالخوف، ولا تُصان بتكثيف الحواجز ولا بتوسيع صلاحيات القمع، بل هي ثمرة تراكُمٍ بطيءٍ ومنتظمٍ لثقةٍ عامة تنشأ حين تؤدي المؤسسات وظائفها بوضوح، وتخضع للقواعد التي وُجدت من أجلها. فالدولة، في جوهرها الفلسفي، ليست كيانًا مجرّدًا ولا شبحًا سياديًا، بل شبكة من المؤسسات، وإذا تآكلت هذه الشبكة أو تصدّعت حلقاتها، سقطت الهيبة ولو ارتفعت نبرة الخطاب.

لا يمكن دحر الإرهاب في دولةٍ ينظر شعبها إلى مؤسساتها بعين الشك والارتياب، لأن الإرهاب لا يولد في فراغ أمني فحسب، بل في فراغ شرعي أيضًا. حين يفقد المواطن ثقته بقدرة المؤسسة على حمايته، وإنصافه، وتمثيله، يصبح هشًّا أمام خطاب العنف، قابلًا للاختراق، أو على الأقل غير معني بالدفاع عن كيانٍ لم يعد يراه مرآةً لمصالحه أو كرامته. فالأمن، مهما بلغت احترافيته، لا يستطيع وحده أن يعوّض غياب الشرعية، ولا أن يبني دولةً على أنقاض مؤسساتٍ متآكلة.

إن التقدم إلى المستقبل لا يتم عبر النوايا الحسنة ولا عبر الشعارات السيادية، بل عبر قواعد ناظمة للأداء العام: قواعد دستورية تضبط السلطة، وسياسية توازن المصالح، وأخلاقية تحمي المعنى. وغياب هذه القواعد ليس عرضًا جانبيًا، بل هو أصل كل أزمة، وجذر كل فشل. فعندما يفلت الأداء المؤسسي من أي مساءلة أو معيار، تتحول الدولة من كيان منظم إلى بنية رخوة، قابلة للتشقق من الداخل، مهما بدا مظهرها الخارجي صلبًا.

إن أخطر ما يصيب الدولة ليس التمرد المسلح ولا الاحتجاج العلني، بل التفلت المؤسسي الصامت؛ ذاك الذي يبدأ بتعطيل القواعد، ثم بتفريغ القوانين من روحها، ثم بتحويل المؤسسات إلى هياكل شكلية تؤدي أدوارًا رمزية لا فعلية. عندها، تصبح الهيبة مجرّد خطاب تعويضي، ويغدو الاستقواء بالأمن محاولة يائسة لستر عطبٍ بنيويٍّ عميق.

الاعتراف بالحقائق، لا مداراة الفشل، هو الخطوة الأولى في إنقاذ الدولة من الانهيار المؤجل. فالتفكير النقدي في بنية القوانين التي نظّمت المؤسسات، وفي العقول التي هندستها، ليس ترفًا فكريًا ولا خيانة سياسية، بل فعل إنقاذ. الكارثة السياسية لا تقع حين ننتقد النظام المؤسسي، بل حين نُصرّ على إنكاره، ونراكم الأخطاء باسم الاستقرار، فنحصد فوضى مؤجلة أشد كلفة.

لقد ساد وهمٌ خطير مفاده أن تجفيف المجال العام، وإسكات السياسة، وتهميش النقاش، يعزز هيبة الدولة. والحقيقة أن ما جرى هو العكس تمامًا: فالدولة التي تُفرغ المجال العام من الحيوية، وتحوّل السياسة إلى فعل أمني، تفقد قدرتها على إدارة التعدد والاختلاف، وتدخل في حالة ارتباك بنيوي، لأن الهيبة لا تُبنى في الفراغ، بل في فضاء عام حيّ، تُتداول فيه الأفكار، وتُراقَب فيه السلطة، وتُصان فيه كرامة المواطن.

للأمن أدواره التي لا غنى عنها في أي مجتمع منظم، لكنه حين يتجاوز مجاله الطبيعي، ويتحول إلى بديل عن السياسة والقانون، فإنه لا يحمي الدولة بل يُشوّه صورتها. فالأمن، في التحليل العميق، هو أول من يدفع ثمن التفلت المؤسسي، لأنه لا يستطيع العمل دون غطاء سياسي وتشريعي واضح. لا أمن بلا سياسة رشيدة، ولا سياسة بلا مؤسسات محترمة.

وحين تُنزَع الهيبة عن المؤسسة التشريعية، أو تُفرغ من دورها الرقابي والتمثيلي، تدخل الدولة في دائرة الخطر الداهم. فالمؤسسة التشريعية ليست ترفًا ديمقراطيًا، بل هي ضمير الدولة المؤسسي، والمرآة التي تنعكس فيها إرادة المجتمع. إضعافها يعني إضعاف العقد الاجتماعي نفسه، وفتح الباب أمام حكم الأمر الواقع، حيث تتحول القوانين إلى أدوات، لا إلى قواعد.

من هنا، فإن إعادة النظر في السياسات المتبعة لخفض فاتورة التشوه المؤسسي ليست خيارًا، بل ضرورة وجودية. ترميم المؤسسة التشريعية، وضبط العلاقة بين السلطات، ومنع أي تصدعات جديدة في البنية المؤسسية، هو الطريق الوحيد للحفاظ على هيبة الدولة بوصفها هيبة مشروعة لا قسرية، وهيبة مقنعة لا مفروضة.

في الخلاصة، هيبة الدولة لا تُقاس بمدى خوف الناس منها، بل بمدى ثقتهم بها. ولا تُصان بتوسيع القبضة، بل بتقوية القاعدة. فالدولة التي تحترم مؤسساتها، وتحمي قواعدها، وتُخضع سلطتها للمساءلة، هي وحدها القادرة على مواجهة الإرهاب، وفتح أفق المستقبل، وإنجاز مشروعها التاريخي دون أن تتحول إلى ظلٍّ ثقيلٍ على شعبها.