واشنطن – بكين.. من يكسب ثقة العرب؟

إميل أمين

مع نهاية الحرب العالمية الثانية، استعلنت الولايات المتحدة الأميركية خليفةً لبريطانيا العظمى، والتي غابت شمسُها، كما تغيب الإمبراطوريات العظمى لأسباب تاريخية وموضوعية.

ورثت واشنطن المجد والسؤدد اللذَيْن كانا للندن، غير أن الاختلاف المؤكَّد بينهما هو أن الأولى لم تسْعَ في طريق السيطرة على العالم من خلال الاحتلال العسكري أو بقوة السلاح، إذ لم يعرف عن الولايات المتحدة حتى أوائل الألفية الجديدة قيامها بغزو دولة عربية، أو الاستيلاء على مُقدَّراتها بطريق عسكري.

ومع أوائل خسمينات القرن العشرين، جرت المقادير بأمرَيْن، عَمَّقا العلاقات العربية الأميركية، الأول تمثَّلَ في اكتشاف النفط، واهتمام أميركا بتعظيم علاقاتها مع الدول المنتِجة له، وبنوع خاص المملكة العربية السعودية، وقيام ثورات التحرّر من الاستعمار البريطاني، وقد ساندت أميركا سرًّا لا جهرًا أهمَّها، وبخاصة ثورة يوليو 1952 في مصر، بل إن كثيرًا من المؤرخين يكاد أن يجمعوا بأن واشنطن هي من شجَّعت جماعة الضباط الأحرار، كما أن العالم العربي لم ينفكّ يتذكر موقف الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور عام 1956 من العدوان الثلاثي على منطقة القناة المصرية، وإنذاره الشهير، حتى وإن جاء درءًا لمواجهة مع الاتحاد السوفيتي كما هدد خروتشوف في ذلك الوقت.

طوال أربعة عقود من الحرب الباردة، مضت العلاقات بين واشنطن والعالم العربي مدًّا وجزرًا، صعودًا وهبوطًا، كما عرفت أوقات مثَّلتْ قمة الرفض للسياسات الأميركية كما في زمن حرب الستة أيام، في عهد الرئيس جونسون، وأخرى تغيرت فيها صورة أميركا، كما جرى مع الرئيس جيمي كارتر راعي معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية، والتي أنهت الحروب بين البلدَيْن.

لم يكن في وقت الحرب الباردة من طرف ثالث يحاول الغزل على متناقضات العالم العربي، فقد كان الصراع بين قطبَيْن لا ثالث لهما، واشنطن من جهة وموسكو من جهة أخرى.

اليوم ترتفع في الأفق علامة استفهام مثيرة للجدل: “هل من قوة عالمية أخرى تحاول إزاحة واشنطن من معادلة الشرق الأوسط وربما دول شمال غرب إفريقيا لتحتل محلَّها؟

الجواب يأخدنا حكمًا في طريق الصين، القطب البازغ، والذي يكاد يُشَكِّل في الأفق مكافئًا موضوعيًّا للولايات المتحدة الأميركية، لا سِيَّما من خلال شراكته مع روسيا الاتحادية.

لا يعني ذلك أن روسيا لم تعُدْ موجودة، فقد قيضت لها الأقدار فلاديمير بوتين، والذي أحياها من الرماد، كما العنقاء مرة جديدة.

غير أن إمكانات الدولتين الكبيرتين، روسيا والصين، مختلفتان جذريًّا، ذلك أنه على الرغم ممّا تملكه روسيا من مقدرات عسكرية، إلا أنها لا تضارع الصين من جهة الردع النقدي، وإمكانات الشراكات المالية والاقتصادية، ومبادرة الطريق والحزام خير دليل على ذلك.

هل بات في حكم المؤكد أن الولايات المتحدة الأميركية، لا سيما بعد الدعم غير المحدود لإسرائيل في غزة، وعبر الأشهر التي تقترب من التسعة الأخيرة، قد خسرت الكثير جدًّا من نفوذها في العالم العربي، وأن هناك حلفاء جددًا، يبدو طالعهم في الصعود بشكل واضح؟

كان هذا التساؤل هو مثار قراءة معمَّقة قدَّمتْها مجلة الفورين آفيرز الأميركية في عددها الأخير، بشكل علمي منهجي، لا مجرد ارتكان إلى ثورات عاطفية شعبوية يمكن أن تفور اليوم وتثور في الغد، أو تخمد في مرحلة لاحقة.

عبر استطلاعات رَأْيٍ أجْرِيَت في خمس دول في أواخر عام 2023، وأوائل عام 2024، تبين وبوضوح أن مكانة الولايات المتحدة بين المواطنين العرب قد تراجعت بشكل كبير.

يَعِنُّ لنا أن نتساءل: “هل كان التماهي الواضح من إدارة بايدن مع حكومة نتنياهو، هو السبب الرئيس الذي أدَّى إلى ازدياد الرفض للسياسات الأميركية، وبخاصة في حالة اللاعدالة التي سادت الموقف الأميركي، وفي ظل حرب إبادة تمت ممارستها على سكان غزة؟

غالب الظن أن هذا، وعلى أهميته، لم يكن سوى رأس الهرم من إشكاليّات تراكمت طوال العقدَيْن ونصف المنصرمَيْن، وربما بدأت الأزمة في حقيقتها من عند الحادي عشر من سبتمبر 2001، فعلى الرغم من التعاطف الكبير الذي شعر به العالم العربي مع الولايات المتحدة في تلك اللحظة، والإدانات الواضحة والقطعية للإرهاب، إلا أن ردَّات فعل إدارة بوش الابن، بدءًا من غزو أفغانستان، ثم احتلال العراق، دفع هذه المشاعر للتراجع، وبخاصة في ظلّ عِلْم الجميع بالماورائيات الأميركية، مع العديد من الجماعات الأصولية، حيث تاريخ طويل منذ الخمسينات، استُخْدِمت فيه تلك الكيانات أميركيًّا، لتكون خنجرًا في الخاصرة السوفيتية.

تبع ذلك حربٌ هلامية تحت عنوان “مكافحة الإرهاب”، تسببت في خسائر جمة أدبيًّا ومعنويًّا في العديد من البقاع والأصقاع العربية، وربما لولا التعثر الأميركي في العراق، لجرى تنفيذ مُخطَّط غزو عدة دول أخرى.

لم تتوقف حدود أزمات العرب مع الولايات المتحدة عند هذا الحدّ، إذ مثَّلت الأعوام الأولى من العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، حجر عثرة كبيرة وواضحة في مسار العلاقات، فقد وقفت إدارة الرئيس باراك أوباما وبقوة، وراء ما عرف بزمن الربيع العربي، حيث طال الخراب والدمار عددًا من الدول العربية، وإن كان قد قُدِّرَ لواحدة منها النجاة، أي مصر، فإن دولاً أخرى لا تزال تمثل جراحًا ثخينة في الجسد العربي، والكل يتذكر وبأسى وأسف شديدَيْن، المواقف الأميركية مما جرى في تلك الأوقات.

هل هو قانون الطبيعة إذن والتي تؤكد على أن الطبيعة تمقت الفراغ، فيما قوانين نيوتن لا سيما الثالث منها يفيد بردات الأفعال في مواجهة الأفعال وبالضدّ منها عادة؟

يبدو أن هذا هو ما أظهرته الاستطلاعات التي قامت بها جماعة الفورين بوليسي، إذ بدا أن ما تخسره واشنطن يقينًا يعدّ بمثابة مكسب للصين، حيث تحسَّنت آراء المواطنين العرب تجاه الصين، مما يعكس اتجاهًا دام نصف عقد من ضعف الدعم للصين في العالم العربي.

ولعله من الملاحظات المثيرة أنه عندما سُئِلَ المستطلعة آراؤهم عما إذا كانت الصين قد بذلت جهودًا جادّة لحماية الحقوق الفلسطينية، وافق عدد قليل من المشاركين على ذلك، ومع ذلك يبدو الرفض لأميركا أعلى صوتًا، ما يشير إلى أن وجهات النظر العربية تعكس استياءً عميقًا من الولايات المتحدة وليس دعمًا محدَّدًا للسياسات الصينية تجاه غزة.

على أن المثير في قراءة المجلة الصادرة عن أحد أهم المراكز التي تشكل حاضنة لرسم السياسات الخارجية للولايات المتحدة، هو أن بعض نتائج الباروميتر العربي حول السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، تبدو أنها قابلة لإعادة النظر، وليست أمرًا نهائيًّا لا رجعة فيها، مما يفتح الباب لرؤية عربية مختلفة حال تغيرت سياسات واشنطن تجاه العرب، وناصرت أو على الأقل اتّخذت مواقف عادلة من القضايا العربية المصيريّة، وفي مقدّمها القضية الفلسطينية.

هل واشنطن أمام منعطف تاريخي يمكن معه أن يعود لصورتها الألق الذي كان شرق أوسطيّ؟
الشكوك بلا شك كبيرة جدًّا، لكن في عالم السياسات كل الأمور نسبية وليست مطلقة، ومعنى ذلك أن خطوات بعينها من إدارة أميركية قائمة، يمكنها أن تغير الأوضاع وتبدل الطباع، وفي المقدمة عودة واشنطن لتضحي حَكَمًا لا جَلَّادًا في الأزمة الفلسطينيّة، عطفًا على الانسحاب العسكري من العراق، والاهتمام بتنمية ورفاهية الشعوب العربية المأزومة اقتصاديًّا، والعمل على إنهاء الحروب الأهلية على رقعة الشطرنج العربية، ومن غير رؤى أحاديَّة تسعى وراء تعظيم مكانتها القطبية في مواجهة الروس والصينيين.

شاهد أيضاً