واش الأم…

الدكتور محمد أمين عبوب.

أستاذ الإعلام والاتصال – الجزائر-

الحقيقة…أنني كنت أظن أن أمي لا تموت…بعيدا عن التصور الانساني الذي يقول “أن المصائب لا تحدث إلا للآخرين” فإن حقيقة الموت قد راودت خاطري مرات عديدة لكنها كانت تستثني أمي؛ وكأنها إنسان خارق أو مَلَكٌ لا يموت، ربما هي أنانية مني تعتبر أن الآباء والأمهات مخلوقات تبقى معنا ولنا دوما، إحساس طفولي لم يبارحني إلى غاية الأربعين من العمر؛ حيث أني -وبعد وفاة أمي- أخذت أياما طويلة لأصدق وأفهم وأتيقن أن الحياة أصبحت وستستمر دون أمي.

كانت أمي؛ في آخر أيامها ضعيفة جدا بفعل كل ما تسبب به (الزهايمر) من دمار نفسي وعضوي، مع ذلك فإن وفاتها كانت بالنسبة إلى إعلان حالة طوارئ وخوف مزمن أصابني منذ ذلك الحين؛ وكأنها كانت بمثابة الحامية لي -مع ضعفها- فكما قال صديقي يوسف وهو يواسيني “أنت الآن بمواجهة القدر عاريا وحيدا في غياب دعوات خالتي عائشة” فبدعواتها وحضورها كانت تجعلني أحس بالأمان.

خالته عائشة هي “الأم” كما كنت أحب أن أناديها عند دخولي إلى المنزل باحثا عنها، كنت أناديها بهذا الاسم لما يحمله من معاني الكمال والكلية؛ فهي تجسيد لمعاني “الأم” التي ضحت وأفنت حياتها من أجل أبنائها؛ ربت؛ أنفقت بسخاء؛ فهي “الأم” بألف ولام التعريف، لكنَ “أمي” كانت لا تحب أن أناديها ب”الأم” بل ب”أمي” (يما) حيث كانت كافرة بتلك المعاني العظيمة التي أسلفت الحديث عنها، وكانت تريد أن أنسبها إلى نفسي “أمي” بكل ما تحمله الكلمة من معاني التفرد والأنانية والتملك، أرادت أن تقول لي أنا أُمُكَ أنت كطفل صغير يقول لأمه: “أمي أنت لي وحدي”، معانٍ كان لا يفهمها إلا هي وأنا، مع أنها لم تتوقف عن حبي حتى وهي تعاني ويلات الزهايمر وهي تعيش مع عائلتها التي لا تعرفهم إلا أحيانا وتغيب ذاكرتها ساعات طوال اليوم.

-كأي شاب أرعن أيام الجهل- كُنت أعاند “أمي” في قراراتها وأنقلب ضد قراراتها التي تيقنت مع النضج أنها كانت صائبة بالفطرة؛ فأمي لم تدخل المدرسة لا في طفولتها ولا شبابها بل عند بلوغها الستينات من عمرها بعد عودتها من مناسك العمرة؛ وعدم قدرتها على قراءة “كتاب الله” -كما تسمي القرآن- وهي تنتظر موعد الصلاة المكتوبة في الحرم؛ فأصرت على أن تتعلم القراءة والكتابة والالتحاق بأقسام “محو الأمية” بمسجد “بلال بن رباح” وبعد سنوات من الاجتهاد منقطع النظير ختمت القرآن قراءةً، الأمر الذي يعد معجزة بالنسبة للكثيرين لكنه أمر ليس بالغريب على “أمي”.

رحم الله أمي وغفر لها.

aboubamine@gmail.com