وعي الأُمّة بين التشويه والاستعادة: قراءة فلسفية في جدلية الانحراف والإصلاح:

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

لا يمكن لأيِّ أُمّة أن تتقدّم أو تنهض إلا بوعيٍ صلبٍ يوجّه حركتها ويضبط مسارها التاريخي، فالوعي هو البوصلة التي تحدِّد وجهة الأفراد والجماعات، وهو – كما وصفه هيغل – “روح العصر” التي تتجلّى في مؤسسات الدولة وثقافة المجتمع وقيمه العليا. غير أنّ وعينا الجمعي، عبر العقود الماضية، قد تعرّض لسلسلةٍ من الحملات المنظَّمة التي هدفت إلى تشويهه وتفريغه من مضامينه الأصيلة، فكان أن أُعيد تشكيله على نحوٍ يخدم مصالح قوى التبعية، ويفتح الباب أمام قيمٍ هجينة وممارساتٍ تنحرف عن المسار التاريخي الأصيل لأُمّتنا.
لقد ساهمت الأنظمة التي توالت على بلداننا في تكريس هذا التشويه من خلال تبعيّتها العمياء لقوى خارجية، فاستُبدلت المرجعيات الفكرية والثقافية التي شكّلت لبّ حضارتنا برؤى دخيلة لا تنتمي إلينا، حتى صرنا – كما قال ابن خلدون – “ننظر إلى أحوال مَن قبلنا نظر المغلوب إلى الغالب، المستسلم لهيمنته”. لقد كانت هذه التبعية أداةً لتفكيك بنية الوعي، إذ أُقصي الوعي الخلّاق والمبدع، وجرى تهميشه لصالح وعيٍ مُسيَّس ومشبوه لا يعنيه سوى المكاسب الضيقة والمصالح الآنية.
إنّ هذا الوعي المشوَّه كان عاملاً حاسماً في سلسلة الهزائم التي لحقت بالإقليم، إذ حُوصرت العقول المبدعة وقُمعت الأصوات الحرة، وفُتحت الأبواب أمام أنماطٍ من التفكير المنحرف الذي يبرّر الاستبداد ويروّج للتبعية باعتبارها قدراً لا مفرّ منه. وهنا نستحضر ما قاله أنطونيو غرامشي عن “الهيمنة الثقافية”، حيث أكّد أنّ السيطرة لا تكون فقط بالقوة، بل بفرض أنماطٍ من التفكير تُصوَّر على أنها الحقيقة الوحيدة الممكنة، وهو ما حدث تماماً في واقعنا المعاصر.
غير أنّ استعادة وعينا الأصيل ليست مهمةً مستحيلة؛ فالوعي – كما يرى بول ريكور – ليس حالةً جامدة، بل سيرورة دائمة من إعادة التأويل والفهم. علينا أن نعيد قراءة ذواتنا بعيداً عن التشويه الموروث، وأن نحيي الوعي النقدي الذي يحرّرنا من التبعية ويعيدنا إلى مسارنا الحضاري، إذ لا نهضة من دون وعي متحرّر يعترف بخصوصيتنا ويستثمر في طاقاتنا الخلّاقة.
إنّ معركتنا اليوم هي معركة وعي قبل أن تكون معركة سياسة أو اقتصاد. وإذا كان الفيلسوف كارل ياسبرز قد أكّد أنّ “الأُمّة التي تفقد وعيها بذاتها تُسلَّم لغيرها ليصوغها كما يشاء”، فإنّ مهمتنا الراهنة هي استعادة ذلك الوعي الذي يليق بتاريخنا ويمهّد لنهضتنا المنشودة.
إنّ الطريق إلى المستقبل يبدأ من إعادة بناء وعينا، وتحصينه من التشويه، وإحياء القدرة على النقد والإبداع؛ فبذلك وحده تستعيد الأُمّة مكانتها، ويتحرّر مصيرها من براثن الهيمنة والتبعية.