من السهل أن يلحظ المرء هذا الإفراط المدهش في احترام آراء الآخرين، مهما تدنّى مستواها أو ارتفع، ومهما كانت متّسقة مع العقل أو غارقة في اللامعقول. غير أنّي أرى أنّ احترام الرأي لا ينبغي أن يتجاوز حدود الضرورة القصوى: حفظُ الحياة بما يكفل لقمةً تُبقي الجسد قائماً، وجرعة ماءٍ تُسكت العطش، وقدرٌ معتدل من الحرية يحول دون سقوط الفرد في قبضة السجون والأغلال. أمّا ما عدا ذلك فليس سوى انقياد خافت، واستسلام موارب، وممارسة طوعية للخضوع بلا مسوّغ حقيقي؛ شكلٌ ناعم من الاستبداد الذي نصنعه بأيدينا.
والأدهى من ذلك أنّ الأغلبية الساحقة من الناس يوقنون – بثقةٍ تصل حدّ الغفلة – بأنّهم طالما لم يتلقّوا أمراً صريحاً يُكرههم على فعلٍ أو امتناعٍ أو قرار، فإنّ ما يتخذونه من خيارات هو من صميم إرادتهم. يظنّون أنّ رغباتهم رغباتهم، وأنّ ما يريدونه صادرٌ عن نواةٍ داخلية صلبة. غير أنّ هذا اليقين المطمئن ليس سوى أحد الأوهام العتيقة التي نُربّيها عن ذواتنا. فكم من قرارٍ نعدّه قرارنا الحرّ وهو في الحقيقة صدى خافت لإيحاءاتٍ خارجية محكمة! وكم من رغبةٍ نعتقد أنها نبتت في باطننا، بينما هي ثمرةٌ لنظام فكري يفرض علينا تعريف ما نرغب فيه ونبرّر ما نتّخذه!
إنّنا نعيش داخل منظومات تفكير تُهندس خياراتنا وتعيد تشكيل وعينا، فنقنع أنفسنا بأن القرار قرارنا، بينما نحن لا نفعل أكثر من الاتساق مع توقعات الآخرين، والامتثال غير الواعي لما ترسمه الجماعة من صور ومعايير. إنّ الخوف من العزلة، والرهبة من الاغتراب، وشبح التهديد الذي يطاول أمننا وحرّيتنا وسعادتنا، كلّها تدفعنا إلى هذا التماهي الطيّع مع ما يريده الآخرون منا.
وهكذا تصبح سعادتنا الحقيقية – بمعانيها العميقة واستحقاقاتها الوجودية – في صراعٍ دائم مع هذا الوهم؛ وهمِ الإرادة الحرّة التي لا تكون، في معظم الأحيان، سوى إرادةٍ مُستعارة.





