كثيرون يكتبون عن الزعماء بعد رحيلهم، لكن قلّ من تُشعل ذكراهم قلوب الأحرار كما يفعل ياسر عرفات.
وما دفعني إلى كتابة هذه السطور إلا ما رأيته مؤخرًا من تجرّؤ بعض الجهلة وأنصاف الواعين على الخالد أبو عمار، أولئك الذين يجهلون معنى النضال، ويقيسون الرجال بسطور التعليقات لا بصفحات التاريخ.
تحدّثوا بجهلٍ عن مناضلٍ عاش نصف قرن بين الخنادق والمنافي، رجلٍ حمل فلسطين في دمه، ودفع ثمنها من عمره وصحته، حتى مات مسمومًا بالبولونيوم وهو صامدٌ كـ جبل النار.
من يهاجم عرفات اليوم لا يدرك أنه يطعن ذاكرة وطنٍ بأكملها.
فهذا الرجل لم يكن قائدًا عابرًا، بل أيقونةً ثورية وضميرًا أمميًّا آمن بالحرية كما يؤمن المؤمن بصلاته.
لم يُساوم، ولم يتنازل، ولم يُبدّل المبدأ بالمصلحة.
الكوفية… راية الأحرار
كثيرون يرتدون الكوفية اليوم، لكن القليل من يعرفون ماذا تعني.
عرفات لم يجعلها زينةً أو شعارًا، بل حوّلها إلى رايةٍ للأحرار في العالم، رمزًا للثبات والإباء والعزة.
ارتداها فارتفعت معه، وصارت رمزًا لكل مظلومٍ يقاوم، ولكل شعبٍ يرفض أن يُمحى من الوجود.
الاغتيال… والمجد الذي لا يُطفأ
عرفات لم يمت في عيادةٍ أو قصر، بل اغتيل لأنه كان أكبر من أن يُشترى أو يُروَّض.
حاصروه، قطعوا عنه الماء والكهرباء، وضيّقوا عليه، لكنه لم ينكسر.
ظلّ يُطلّ من شرفته في المقاطعة ليقول للعالم:
“هنا باقون ما بقي الزعتر والزيتون.”
كان يعرف أن النهاية قادمة، لكنه ظلّ ثابتًا، مؤمنًا أن الكلمة الأخيرة ستكون لفلسطين.
جنازة بحجم الأمة
وحين رحل، لم يكن الوداع وداع جسدٍ، بل وداع زمنٍ من الكبرياء.
خرجت الملايين في جنازةٍ لم يعرف لها التاريخ مثيلًا؛ تبكي وتُصفّق وترفع الطائرة التي حلمت بالعودة، وتقول للعالم:
هذا هو الزعيم الذي لم يبدّل بوصلته يومًا.
حتى خصومه وقفوا بخشوعٍ أمام عظمته. قال عنه اللواء عمر سليمان:
“لقد مات الرجل الذي كان يعرف كيف يُمسك بخيوط اللعبة، وكيف يوازن بين النار والزيت دون أن يحترق.”
إرث لا يُطمس
أما أولئك الذين يتهجّمون عليه اليوم، فهم لا يسيئون إليه، بل يكشفون جهلهم وضآلة وعيهم.
فأبو عمار أكبر من كلماتهم، وأبقى من أحقادهم.
لقد حاولوا اغتياله جسدًا، لكنهم فشلوا في اغتياله معنىً ورمزًا.
سيبقى في ذاكرة الشعوب ضمير الثورة الفلسطينية، وصوتها الذي لا يُخرس، ووجهها الذي لا يغيب مهما تعاقبت الأزمنة.
سلامٌ على من عاش من أجل فلسطين ومات واقفًا في سبيلها.
وسلامٌ على الكوفية التي صارت علمًا فوق رؤوس الأحرار.
ناشط سياسي وكاتب عربي فلسطيني عضو الامانة العامة للشبكة العربية للثقافة والرأي والإعلام







