ياســر عـرفــات … عبـقـريــة الحضور في الحياة والموت

نبيل عمرو

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على مدار اليوم والشهر والسنة، وإلى ما لا نهاية إلا وتختتم بسؤال… لو كان عرفات على قيد الحياة ما الذي سيفعل؟
سؤالٌ دار على شفاه كل الفلسطينيين حين وقع أخطر انقسام في تاريخ الشعب والقضية، كان انقساماً أصعب ما فيه أنه لم يتم حول غنيمة، كما حدث كثيراً حين يقتتل محررو بلادهم على النفوذ والسلطة، بل تم حول مأساة، حين كان الاحتلال يتمادى والاستيطان يتسع والحصار يضيق، ويكاد يخنق كل عنق فلسطينية.
في حياته وعندما خرج من جغرافية لبنان الثمينة بعد حرب مجيدة، واجه انشقاقاً كان يزحف سريعاً نحو حربٍ أهلية فلسطينية، مدعومة بقوى عربية نافذة ومقتدرة وبانتهازية دولية تنتظر من سينتصر فيها حتى تتعامل معه.
أدار عرفات معركة احتواء الانشقاق وإنهائه بذات الكفاءة التي أدار بها معركة بيروت الكبرى، كان ضنيناً بالدم الفلسطيني، خصوصاً حين يراق بيد فلسطينية، فترك الأبواب مفتوحة لعودة المنشقين إلى البيت، فعاد كثيرون منهم لتتبعثر بقيتهم على شتات بائس ولسان حالهم يقول، كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
عرف كيف يُخرج فلسطين حينها من الخطر الذي أوشك على إنهائها كقضية وكمشروع وطني تحرري، إذ جمع الشمل في مجلس وطني عقد في عاصمة التوأم التاريخي عمّان، وبمبادرة من الراحل الكبير الحسين بن طلال، الذي دعا المجلس إلى الانعقاد في عاصمته بعد أن تحفّظ كثيرون على مجرد الحديث في أمره.
اشتهر معاوية بن أبي سفيان بمقولة الشعرة التي لا تنقطع بينه وبين الناس، وبعد قرون اشتهر عرفات بأنه حوّل الشعرة إلى حبل يمده حين يلزم القضية والمشروع الوطني ويشده حين يرى ضرورة لذلك.
وهل بغير هذا تمكن عرفات من التموضع في قلب الحالة الفلسطينية منذ كان طالباً في كلية الهندسة بجامعة القاهرة، ثم رئيساً لاتحاد الطلبة الفلسطينيين الذي كان بمثابة منظمة التحرير الافتراضية قبل أن تولد الحقيقية؟ وهل بغير دهاء وذكاء وقدرات استثنائية يظل وراء مقود العربة الفلسطينية عقوداً طويلة، ولم يكن ليتخلف عن مقدمة الصفوف في كل معركة خطرة وتكاد تكون انتحارية في مسيرة الدم والنار؟
منذ تفتحت عيناه على الدنيا وتبلور وعيه لحالته وحالة شعبه، بدا كما لو أنه نذر نفسه لقيادة حقبة تاريخية تأسست فيها ثورة معاصرة، وتأسست عبرها الكيانية الفلسطينية التي كادت تندثر في زمن النكبة والشتات، وتحققت فيها ثنائية البندقية والسياسة، لتصل القضية المنسية والمشتتة إلى أن تخاطب العالم من أعلى منصة دولية، وكان مرتدي الكوفية الفلسطينية وبذلة الكاكي القتالية، هو من جسّد الحالة الفلسطينية في صورتها الجديدة، وفرضها على العالم منذ تلك الأيام وإلى أن تقوم الدولة.
أليس هو من لخّص تاريخاً بأكمله لشعب عظيم حين قال…
«أتيتُكم وبندقية الثائر في يدي، وغصن الزيتون في يدي الأخرى.. فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي».
مضى عرفات وراء غصنه الأخضر، عمل كل ما باستطاعته كي لا يسقط من يده، ولا تسقط معه آمال وتطلعات شعبه في الحرية والكرامة والاستقلال.. ووري الثرى على بعد قبلة من القدس، التي منها نشأ وإليها عاد، وها نحن بعده نواصل السؤال… لو كان على قيد الحياة فماذا يمكن أن يفعل فيما نحن فيه الآن؟

شاهد أيضاً