ورغم أن حادثة حافلة العمال الفلسطينيين من جباليا البلد، كانت شرارة الانفجار، إلا جملة الانتهاكات وأعمال التنكيل اليومية، والتشريد والاعتقالات بحق الفلسطينيين، قادت إلى رد شعبي كبير، على تهميش الفلسطينيين، ومحاولة إنهاء قضيتهم وسعيهم للتحرر من الاحتلال.
-كيف تفجرت الانتفاضة
في مساء الثامن من كانون أول/ديسمبر 1987، كان عدد من أنباء منطقة جباليا البلد شمال قطاع غزة، عائدين من العمل في الأراضي المحتلة عام 1948، وخلال توقف حافلتهم بمحطة وقود قرب معبر بيت حانون “إيرز”، أقدم مستوطن يقود شاحنة على تعمد دهسهم، ما أدى إلى استشهاد 4 منهم.
سعى الإعلام العبري، لتصوير عملية الدهس على أنها حادث سير عادي، لتنفيس غضب الفلسطينيين، لكن الجريمة كانت أصعب من محاولة إخفائها، وخلقت حالة غضب عارمة في صفوف الفلسطينيين.
وفي اليوم التالي لاستشهاد العمال، وخلال جنازاتهم في جباليا البلد، خرج عدد كبير من المشيعين، وتحولت الجنازة إلى تظاهرة غاضبة، وما إن وصلت إلى أحد مراكز جيش الاحتلال في المنطقة، حتى بدأ المشيعون برشق الجنود بالحجارة والزجاجات الفارغة، وكان ذلك أحد أول ردود الفعل ضد الاحتلال، والذي قام بإطلاق النار على الفلسطينيين وإصابة عدد منهم.
وتفجر الموقف مع اعتداء الاحتلال على المشيعين، وبات من الصعب السيطرة على الأوضاع، وبدأت تخرج بصورة يومية، تظاهرات، وأعمال احتجاج ضد الاحتلال، كانت السمة البارزة فيها، رشق الحجارة على الجنود وآليات الاحتلال، وبات تجول الجنود على خلاف السابق بأعداد كبيرة وبحذر بسبب الترصد لهم من قبل الفلسطينيين لاستهدافهم.
وكان من المفارقة، رغم حدة الاحتجاجات، إلا أن القائد العسكري للمنطقة، ومع احتشاد عدد كبير من الجنود، وطلب تعزيزات، إلا أن اعتقد أن الأوضاع سرعان ما ستهدأ لذلك لم يطلب اتخاذ إجراءات مثل حظر تجوال أو إجراء تضييقات كبيرة على الفلسطينيين، لكن ما حدث كان العكس واشتعلت الأوضاع بصورة أكبر.
وساد إضراب عام بين الفلسطينيين ورفض العمال التوجه إلى مناطق عملهم، كما أن طلبة الجامعة الإسلامية، ساروا في الشوارع بتظاهرات لحشد الناس من أجل الخروج للاحتجاج والاشتباك مع جيش الاحتلال.
وجرى محاصرة الطلبة داخل الجامعة والاعتداء عليهم بإطلاق النار والغاز المسيل للدموع، ما زاد من اشتعال الاحتجاجات بعد خروج أهاليهم لفك الحصار عنهم، فيما هاجم شبان مركبات الاحتلال وصعدوا عليها، فضلا عن إحراق إحداها بزجاجات المولوتوف.
-تصعيد وأساليب مواجهة
رغم مضي نحو 20 عاما على استتباب الاحتلال، في كافة أنحاء فلسطين المحتلة، بعد نكسة عام 1967، إلا أن الانتفاضة، جلبت معها أساليب لجأ إليها الفلسطينيون لمواجهة الاحتلال، سواء على صعيد تكبيد الاحتلال خسائر اقتصادية، أو بشرية باستهداف جنوده.
وشرع الفلسطينيون بكفاح شعبي، عبر المواجهة بالحجارة واستخدام المقلاع لضرب الجنود، فضلا عن استخدام زجاجات المولوتوف ومهاجمة النقاط العسكرية.
كما صارت التظاهرات حدثا يوميا، فضلا عن الإضرابات العامة في المصالح التجارية وعلى صعيد العمال ما ألحق أضرارا باقتصاد الاحتلال رغم الظروف الصعبة التي يعانيها الفلسطينيون.
وباتت جنازات الشهداء كذلك شكلا من أشكال مقاومة الاحتلال، عبر مشاركات حاشدة في المدن والقرى الفلسطينية، ورفع اللافتات التي تنادي بالتخلص من الاحتلال والتحرر.
ولجأ الفلسطينيون إلى رفض الأوامر العسكرية، والتوقف عن دفع الضرائب للاحتلال، وكل أشكال القهر المادي الممارس بحقهم، وبدأ تحريض الموظفين الفلسطينيين في أجهزة ما يعرف بالإدارة المدنية التي يديرها جيش الاحتلال، باتخاذ موقف والتوقف عن العمل، احتجاجا على ما يجري لأبناء شعبهم.
كما لجأ سكان بلدات عديدة إلى تسليم هوياتهم للحكام العسكريين بمناطقهم، احتجاجا على ما يجري ورفضا لدفع الضرائب للاحتلال.
وعلى صعيد المقاومة الخشنة، قام الفلسطينيون باستهداف آليات الاحتلال، بالزجاجات الحارقة، وإشعال الإطارات وإغلاق الشوارع أمامها، لعرقلة حملات التنكيل والاعتقالات، فضلا عن إلقاء زيوت السيارات في الطرق لعرقلة حركة الآليات والجنود، ووضع حواجز حديدية، في طريق الدوريات والمستوطنين.
ونشط الفلسطينيون ضد عملاء الاحتلال في المدن والقرى، وكان العميل يواجه عملية عزل اجتماعية شديدة، ومن تورط في تسليم مقاومين أو التسبب في استشهادهم كان يجري التحقيق معهم وتصفيتهم.
وكان من أبرز وسائل تحدي الاحتلال، رفع العلم الفلسطيني، الذي كان يعد رفعه من المحرمات لدى الاحتلال، على أعمدة الكهرباء وفي الطرقات، وعلى المساجد والكنائس، وخط عبارات تحدي الاحتلال والدعوة لمواجهته على الجدران والأماكن العامة، وكان الاحتلال يجهد في مكافحة كل هذه الوسائل ويستنزف طاقته في ملاحقة الشبان النشطاء بالانتفاضة.
ورغم أن منظمة التحرير كان موجودة في المشهد، إلا أن الانتفاضة الأولى، اتسمت بظهور حركة حماس، بعد تفجر الأوضاع بعدة أيام، إذا أعلن عن انطلاق حماس، بعد 6 أيام على قتل العمال، وانخرطت بصورة مباشرة في نشاط الانتفاضة، وشكلت جهازا سريا، وظيفته ملاحقة عملاء الاحتلال من أجل تأمين الانتفاضة وضمان استمراريتها في مواجهة الاحتلال.
كما جرت خلال الانتفاضة العديد من محاولات أسر الجنود، من أجل مبادلتهم بأسرى فلسطينيين، مثل عملية الجندي نسيم توليدانو، والذي خطفته خلية تتبع حركة حماس، في القدس المحتلة، وهددت بقتله إذا لم يفرج عن الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة.
-تكسير العظام
في مواجهة الانتفاضة الشاملة، خرج الاحتلال الذي كان يرأس حكومته آنذاك إسحق شامير، بسياسة تكسير العظام كما أطلق عليها، وانتشرت لقطات شهيرة لجنود يعتقلون شبانا فلسطينيين، ويقومون بتحطيم أيديهم بوحشية بواسطة الحجارة في إحدى المناطق الجبلية، والتي أثارت ضجة عالمية حينها.
كما أن الاحتلال استخدام أساليب وحشية في مداهمة مدن الضفة وغزة والقرى، عبر التنكيل بالسكان وتدمير ممتلكاتهم، والاعتقالات الواسعة لوأد الانتفاضة بكافة السبل.
واستخدم الاحتلال الرصاص المعدني المغلف بالمطاط بصورة كبيرة، وكان الاستهداف لشبان الحجارة في المناطق العلوية من الجسم، في الصدر والرأس فضلا عن استهداف العينين ما أدى لإعاقة المئات من الفلسطينيين.
ووفقا للإحصاءات حول فترة الانتفاضة الأولى، فقد استشهد 1126 فلسطينيا، بينهم 241 طفلا، برصاص الاحتلال والمستوطنين.
وتعرض 90 فلسطينيا، لإصابات بجروح متفاوتة، 40 بالمئة منهم بإعاقات دائمة، و65 بالمئة بالشلل الدماغي أو النصفي، أو إعاقة بأحد الأطراف، فضلا عن إصابات البتر لأطراف هامة في الجسم مثل الأيدي والأرجل.
وبلغت حصيلة المعتقلين في كافة أنحاء المناطق الفلسطيني قرابة 60 ألف معتقل، إضافة إلى تدمير أكثر من 1200 منزل، وعشرات آلاف أشجار الزيتون والمحاصيل، وحرمان الفلسطينيين من الكثير من حقوقهم سواء بالسفر أو العلاج في الخارج.





