كتب – د. رياض عبدالكريم عواد
للاسف أو بدونه، وقع أغلب السياسيين والمثقفين الفلسطينين فريسة التضليل الذي مارسته حكومة الاحتلال وجيشها بخصوص أهداف الحرب، وربط هؤلاء كل تحليلاتهم السياسية ونتائج الحرب بهذه الأهداف، ولأن هذه الأهداف الإسرائيلية المعلنة لم تتحقق حتى الان، فلا مانع اذن من إعلان فشل الاحتلال والحرب وانتصار المقاومة. أهداف الاحتلال المعلنة من الحرب:
تدمير حماس
تصفية قادتها تحديدا السنوار والضيف
تحجيم مقدرة حماس العسكرية وقدرتها على تهديد أمن المستوطنات. وأهداف أخرى مشابهة بل ومتناقضة، ترتفع احيانا وتهبط احيانا أخرى، لأسباب كثيرة، فسرها الفلسطينيون بقوة واشتداد المواجهة مع المقاومة وحجم الخسائر الهائلة في صفوف قواته، تحدث البعض عن تدمير 50% من قوات لواء جولاني.
تعلمنا من علوم الصحة العامة الا نعطي اهتماما كبيرا للاهداف والأسباب المباشرة direct causes ونولي النظر والبحث في الأسباب العميقة الحقيقة غير الظاهرة للعيان underlying causes اذا أردنا معرفة السبب الحقيقي للظاهرة التي نريد أن دراستها ومعرفتها وفهمها.
منذ بدء الحرب على غزة أصبح واضحا، تحديدا لابناء قطاع غزة، أن هدف قوات الاحتلال من هذه الحرب تدمير قطاع غزة واخراجه من الحياة، وقتل أكبر عدد من المدنيين ودفعهم إلى النزوح الى مختلف الاتجاهات، وتحديدا إلى جنوب القطاع، حيث خطر الهجرة والتهجير مازال يدق على الابواب، بسبب ما آلت اليه غزة من موت ودمار وما لحق بالنازحين من جوع وعطش ومرض وبرد وذل وموت وإهانة.
لو أخذنا هذا الذي حدث لغزة وأهلها من دمار وسألنا هؤلاء: الا يعتبر هذا الذي حدث لغزة من موت ودمار هدفا استراتيجيا استطاع الاحتلال أن يحققه، دون الإعلان عنه، وتركنا ننتظر تحقيق هدفه المعلن بتصفية قادة حماس، أليس هذا هو التضليل الذي نجح الاحتلال في ايقاع المثقفين والسياسيين فيه.
أن ممارسة الاحتلال للتضليل بخصوص إعلان أهدافه الحقيقة للمعركة ترافق مع تضليلين اخرين:
بطء المعركة البرية في الشمال، أيضا هنا مارس الاحتلال الخداع، تقدم وتأخر، احتل وانسحب وأعاد الكرة من جديد مرة بل مرات، وفي كل مرة دمر المزيد وخرب أكثر وقتل أكثر. لقد تركنا الاحتلال نراقب كم آلية وجرافة دمرتها المقاومة، وكم جندي وضابط قُتل، وهذا هو التضليل الاخر. ترك الاحتلال الصحف والمستشفيات الإسرائيلية تنشر الاخبار المتناقضة بخصوص قتلاه وجرحاه امعانا في تضليلنا، رغم معرفتنا جميعنا أن هذا النشر لا يمكن ان يتم الا بعد موافقة الرقابة العسكرية.
أن السبب الرئيسي من بطء العملية البرية والنشر العلني حول عدد قتلاه وجرحاه وخسائره دون حرج أو خوف من جبهته الداخلية، التي تعلن تأييدها للحرب وضرورة استمرارها لتحقيق أهدافها بنسب عالية، هو الامعان في تضليلنا عن هدفه الحقيقي للحرب، وكسب الوقت اللازم واطالة مدة المعركة البرية، بهدف تدمير غزة والشمال ومسح بنيتها الأساسية وارجاعها عقود طويلة إلى الخلف لتصبح عصية على إعادة الأعمار من جديد في مدة معقولة من الزمن. أن هذا التكتيك العسكري يطبق الان بحذافيره في جنوب قطاع غزة، خاصة في تطويل مدة اجتياح خانيونس وغض النظر مؤقتا عن اجتياح رفح والوسطى بريا.
لقد قاتلت المقاومة وتصدت وعرقلت قوات الاحتلال واوقعت فيه خسائر، لكن هذا لم يوقف تقدم الاحتلال ولم يمنعه من مواصلة المضي حثيثا نحو هدفه الأساسي، تدمير غزة وترحيل شعبها. الأرقام الدولية التي تتحدث عن حجم الدمار في غزة والشمال تؤكد ما ذهبنا اليه، وأن هذا التدمير كان أحد اهم اهداف الاحتلال الاستراتيجية الحقيقية من الحرب.
لقد عمي المثقفين والسياسيين عن هذا الهدف لدرجة أنهم لم يستطيعوا أن يقدروا ويحسوا بثقل الكلفة الإنسانية للحرب الواقعة على كاهل 2.5 مليون مواطن اعزل، وبدأ البعض يلومهم على حزنهم وصراخهم، وفتش في دفاتره القديمة عن أمثلة ومقاربات مجتزأة من التاريخ ليسوقوها لأهل غزة والشعب الفلسطيني ويقارن بين تضحياتنا وتضحيات الشعوب في الجزائر وفيتنام، متناسين اننا كشعب بدأنا مقاومتنا منذ أكثر من قرن، وواصلنا العطاء والتضحيات على طول هذه العقود الطويلة، نحن المقاومة ونحن شعبها.
أن سقوط هذا الكم الهائل من الشهداء والجرحى والذي يفوق الـ100 الف، والوضع الصحي المزري للجرحى والـ 30 الف حالة بتر اطراف التي يتم الحديث عنها، والاف الأيتام والارامل والأسر التي مسحت من السجل المدني، وترك جثث ابناءنا عرضة لنهش الكلاب والفئران أو مدفونة تحت ركام بيوتنا، إضافة الى هذا التدمير المغولي الذي وقع على قطاع غزة، كل هذا يؤلمنا، ولكن ما يؤلمنا أكثر أن أهداف الاحتلال تتحقق رويدا رويدا وبهدوء، في حين يصفق البعض للانتصارات ويبشر بها.
هذه حرب هدفها غزة وأهل غزة ومصيرهم والشعب والقضية الفلسطينية، من يريد أن يتصدى للاحتلال ويفشل أهدافه، من يريد أن ينتصر في هذه المعركة، عليه اولا أن يعرف هذه الأهداف ويحددها بدقة، والا ينجر خلف دعاية الاحتلال وفضائيات الكذب ومحللي السوء والدمار الذين يبرمون مقابل ما يقبضون.