لم يجرف “طوفان الأقصى” معه فقط، منذ السابع من تشرين الأول الماضي، البشر والحجر والثمر في غزة كما يقال، بل جرف معه العديد من “الأوهام” – إن صح التعبير – التي كانت قد غدت من المسلمات، من كثرة تكرارها والتعويل عليها، عند الحديث عن المواجهة بين مكونات المقاومة، سواء منها الفلسطينية أو العربية إن وجدت – بالمعنى السياسي – أو الإسلامية.
من هذه المقولات كي لا نكرر كلمة “الأوهام”، ما كان يقال، بأن العدو الصهيوني لا يمكنه الدخول في حرب طويلة الأمد، سواء عسكرياً أو إقتصادياً أو سياسياً وحتى إجتماعياً، لأنها تستنزفه وهو “أوهن من بيت العنكبوت”، بحيث لا يمكن أن يتحمَّل كلفة هذا الإستنزاف، لنراه اليوم وهو يدخل الشهر الثامن من الحرب لأول مرة في تاريخ “دولته”، الذي سيحتفل بعيدها ال 76 بعد أيام، وهو لا يزال، ورغم خسائره البشرية والإقتصادية والسياسية وحتى المعنوية، في علاقاته مع شعوب العالم، يقاتل بشراسة بحيث حوَّل هذه الحرب، إلى إستنزاف باهظ الثمن لأعدائه، لا سيما على الجبهة اللبنانية التي تُعتبر الأخطر عليه من الناحية العسكرية والعملياتية، كما أنه يقاتل على أكثر من جبهة، وصلت حتى رأس محور الممانعة إيران – ولو بشكل إستعراضي – إضافة إلى غزة ولبنان وسوريا وحتى العراق، ليثبت للعالم بأن ذراعه طويلة، ولا حدود لقوة ردعه، وهذه أيضاً كانت من المقولات – الأوهام، عند الحديث عن سقوط قوة الردع لديه، أو أقله توازن الردع أو الرعب، كما يحب بعض المغالين تصويره، لأسباب الحرب النفسية ربما أكثر منها الواقعية، التي سقطت سقوطاً مدوياً، بحيث ظهر لكل مراقب منطقي – بغض النظر عن العواطف الشخصية – بأن هذا العدو لا يزال له اليد الطولى، والمسيطر بالنار على المنطقة، برغم الضربة التي تلقاها في 7 أكتوبر، والتي لا يختلف إثنان على قوتها وحرفيتها وتداعياتها، والتي نجح لاحقاً في إستيعابها عسكرياً وميدانياً، وإن كان الوقت مبكراً لإستيعابها ربما نفسياً ومعنوياً.
كذلك من المقولات التي كانت شائعة، ويعتبرها البعض نقيصة بحق هذا العدو، أن مواطنيه وجنوده هم من نقاط الضعف لديه، بحيث أنه يمكن لوي ذراعه عبرهما، وهو ربما ما قد تكون راهنت عليه “حماس”، عند قيامها بأسر المئات من الجنود والمستوطنين، لمبادلتهم بالأسرى في معتقلاته وسجونه، على إعتبار أن ردة الفعل ستكون حرب تقليدية، عبر القصف بالطيران كمثل المواجهات السابقة، ربما قبل أن يرضخ لصفقة تبادل، وهو ما ثبت بطلانه بعد سبعة أشهر، من الحرب واللامبالاة النسبية بحق الأسرى الصهاينة، وصراخ أهاليهم وتحركاتهم، وهو ما يجب أن يضعه المحللون العرب في حساباتهم بعد اليوم، حتى لا يكون البعض مشاركاً في تضليل الرأي العام، أو في أفضل الأحوال مغالياً في حماسه، فيخلط بين الواقع والأمنيات.
وبطبيعة الحال، يعني سقوط هذه المقولات سقوطاً بالمقابل، لكل أو لغالبية ما ضخته وسائل دعاية محور المقاومة، من مبالغات وتجييش وتهييج جعلت البعض من الناس البسطاء، يعيشون خارج الواقع المعاش، فهذه المعركة أظهرت كل طرف على حقيقته العارية، كما أظهرت قوة كل طرف، ومساحة الدور المنوط به في المنطقة، تحت إشراف “الراعي” الأميركي، وهو ما يعيدنا إلى مقولة الرئيس المصري الراحل أنور السادات، بأن 99 % من أوراق اللعبة في المنطقة هي بيد أميركا.
وكما سقطت مقولات محور الممانعة وعنترياته، كذلك سقطت مقولات المحور المقابل، محور التطبيع و “رومانسيته” في الحديث عن السلام والتعايش مع الكيان الصهيوني، الذي ضرب بعرض الحائط كل ما أنتجته ثقافة “الواقعية العربية”، القائمة على القبول بالأمر الواقع والتعاون معه، وهو ما حصل وتُرجم بإتفاقيات سلام كان آخرها “إتفاقية أبراهام”، من دون أدنى إحترام لشركاء السلام ومطالبهم، على تواضعها بوقف الإستيطان في الضفة الغربية، وقبول حل الدولتين، وهو ما يغذِّي نزعة الإحباط والغضب لدى الشعب الفلسطيني، ويعطي الذريعة لإيران لمواصلة إستغلال الوضع لصالحها، عبر النفخ على نار هذا الغضب والإحباط، وهنا لا يبقى لدينا، سوى التعويل على موقف المملكة العربية السعودية، ودعمه في مواجهة الضغوطات الأميركية للتطبيع، في إصرارها على القبول بحل الدولتين مقابل هذا التطبيع.
غني عن القول، بأننا لا نقول هذا الكلام بغرض التطبيل للعدو، أو نشر الإنهزامية في صفوف “الجماهير”، فلدينا نقاط ضوء في هذه المواجهة، ووسط هذا الظلام الدامس على قلَّتها، لكنها قد تسمح لنا إن إعتمدنا التفكير العلمي والواقعي السليم، بعيداً عن العواطف والهوبرات، وإذا أحسنَّا إستغلالها بالبناء عليها للمستقبل، لذلك ندعو للتخلي عن الأوهام التي لا تزال تتحكم بنا، منذ حوالي قرن من الزمان، منذ وهم “المملكة العربية السورية” بقيادة الملك فيصل التي لم تستمر أكثر من أشهر، أي منذ بداية تكوين الدولة الحديثة في المنطقة، بعد إنهيار الإمبراطورية العثمانية وإتفاقية سايكس – بيكو وحتى يومنا هذا، مروراً بكل النكبات والنكسات والهزائم التي تعرضنا لها، بسبب هذه الأوهام، التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، من تأخر عن اللحاق بركب التقدم العالمي، فضلاً عن إضاعة الكثير الكثير من حقوقنا.
فلو إستعرضنا ما كان متاحاً لنا نحن العرب من حقوق – ولو منقوصة – أقله منذ عام النكبة حتى اليوم، ورفضناها نزقاً وجرياً وراء الشعارات والأوهام – بغض النظر عن أحقيتها – لعرفنا مدى الخسارة التي حلت بنا ولا تزال جراء هذا الجري، وآخرها ما نسعى إليه اليوم، من العودة بغزة إلى ما قبل السابع من أكتوبر، ولن نزيد حتى لا نُتَّهم بالإنهزامية والإنبطاح وسط المعركة، وغيرها من الشعارات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، في حين أن القصد هو محاولة التفكير من خارج الصندوق العربي التقليدي، عبر توعية الإنسان العربي كلٌ في وطنه بهدف إخراجه من دوامة الأوهام المخدِّرة، التي أغرقوه بها على مدى سنين طويلة، حتى بات يصح فيه القول “أنا من ضيَّع في الأوهام عمره”.