بصرف النظر عن مصير مسألة وقف إطلاق النار فى غزة، فثمة معركة جانبية مهمة لمرحلة ما بعد الحرب، تدور حول تصاعد الضغوط والتفاعلات حول احتمال قيام المحكمة الجنائية الدولية باستدعاء قادة إسرائيليين، ويأتى هذا على خلفية أنه منذ إنشائها عام 2002 والمحكمة متهمة منذ ذلك الوقت بأنها أداة غربية تمارس دورها فى إفريقيا فقط، وبالشكل الذى تريده القوى الغربية ولا تعر المسألة الفلسطينية ما تستحقه، ولم تقم بأى دور حقيقى خلال عدة حروب لغزة شهدت خلالها العديد من التجاوزات والجرائم الإسرائيلية التى تستحق تدخل المحكمة.
فمؤخرا تصاعد حوار سياسى وإعلامى حول أن المحكمة تدرس استدعاء رئيس الوزراء نتنياهو ووزير دفاعه جالانت، وتردد وجود تهديدات لنتنياهو للرئيس الأمريكى بايدن بالتدخل لدى المحكمة ومنع صدور مثل هذا القرار، كما صدر خطاب مشين من عدد من أعضاء الكونجرس الأمريكى الجمهوريين يخاطبون مدعى عام المحكمة البريطانى، صادق خان، بشأن هذه الخطوة وبلغة تتضمن الكثير من التجاوزات والاستعلاء، وتشير إلى عدم عضوية الولايات المتحدة وإسرائيل، متناسين أن المحكمة أصدرت أمرا بالقبض على الرئيس الروسى بوتين، وهللت له المحافل الغربية، رغم أن روسيا أيضا ليست عضوا فى المحكمة.
ويمكن اعتبار محاكمات نورمبرج وطوكيو لمجرمى الحرب العالمية الثانية هى جذور فكرة هذه المحكمة، التى تم تجميد مقترحات بإنشائها حتى عقدت محاكمات لمجرمى الحرب فى يوغسلافيا ثم رواندا لتتبلور الفكرة فى نهاية القرن الماضى بعقد مؤتمر روما التأسيسى وإنشاء المحكمة فى لاهاى فى بداية القرن الحالى للتعامل مع حالات الإبادة الجماعية والتطهير العرقى والجرائم ضد الإنسانية، وشاركت حوالى 120 دولة فى التأسيس، لكن من صدق عددا أقل من هذا، أغلبها دول غربية ورفضت واشنطن وإسرائيل الانضمام تحسبا وتوقعا لما هو معروف عن سلوك الدولتين.
وتدخلت المحكمة فى 4 حالات إفريقية قبل حالة روسيا الأخيرة وهى أوغندا والكونغو وإفريقيا الوسطى والسودان فى حالة دارفور، وأذكر أنه فى إطار الضجة التى صارت خلال قرار المحكمة إلقاء القبض على الرئيس السابق البشير بمناسبة القمة الإفريقية التى عقدت فى جوهانسبرج 2011، وتسببت فى إلغاء مشاركة البشير وتعرض حكومة جنوب إفريقيا لحرج شديد، وأثار الأمر استياء عدد من الدول الإفريقية بصرف النظر عن استحقاق البشير لهذا الحكم، وفى ظل هذه الخلفية زارت السيدة فاتى بنسودة، نائب مدعى عام المحكمة الإيطالى آنداك كومبو، جنوب إفريقيا للترويج لانضمام دول القارة وتصديقها على نظام روما للمحكمة، وقد التقت هذه المسؤولة- التى أصبحت لاحقا مدعيا عاما للمحكمة- بمجلس السفراء الأفارقة فى إطار حملتها الترويجية، حيث كنت عضوا بالمجلس وسفيرا لمصر هناك، وقد تركزت مداخلتى على أمر أعتبره جوهريا، وهو أنى سأصدق هذه المحكمة وجدارتها بشرط، وهو أن تتبنى بجدية وتتدخل فى جرائم الحرب الإسرائيلية الممتدة زمنيا، ولم تجد بنسودة ما ترد به على هذا الطرح بل أربكها بدرجة كبيرة.
وربما يكون المشهد الراهن فى غزة هو أبرز حالات التطهير العرقى فى التاريخ المعاصر والنموذج الذى يضع المحكمة وكل التنظيم الدولى الذى يمسك الغرب بمفاتيحه على المحك، ولنتذكر أنه فى حالات يوغسلافيا ورواندا حدثت الجرائم دون إعلان النية فى القيام بها، بل كان المجرمون فى هذه الحالات وفى الحالات الإفريقية سابقة الذكر يدعون كذبا عدم المسؤولية أو يحاولون إخفاء جرائمهم، بينما لا يوجد نظير لحالة الحرب الراهنة فى غزة فى عدد تصريحات الإبادة الجماعية والعنصرية والتطهير العرقى على لسان نتنياهو ووزير دفاعه جالانت الذى تحدث عن حيوانات يجب استئصالها، وأصدرا ومسؤولون آخرون العديد من التصريحات حول تهجير شعب غزة واقتلاعه من أراضيه، وفى جعبة الوزراء والمسؤولين الإسرائيليين الآخرين، خاصة من اليمين الدينى المتطرف، عدد آخر لا يحصى من التصريحات التى تكفى فى أى نظام قضائى حتى غير غربى للاستناد إليها فى جرائم الحض على الكراهية والتطهير العرقى، أى باختصار أنه لا نظير لهذه الحرب كنموذج إذا لم تتدخل فيها المحكمة الجنائية الدولية فلا معنى ولا جدوى لوجودها.
والحقيقة أن مشكلة المحكمة لا تنفصل عن مجمل الخلل فى المنظومة الدولية ككل واختلال نظام حفظ السلم والأمن الدوليين، بل واختلال المنظمة الدولية أى الأمم المتحدة ذاتها، وهذا الخلل ليس جديدا فهو مصاحب للنشأة ونتيجة للحرب الباردة ونظام التصويت فى مجلس الأمن منذ البداية،لكن هذه الأوضاع تدهورت أكثر بعد سقوط الكتلة السوفيتية وتراجع دور دول الجنوب وهيمنة القوى الغربية على التنظيم الدولى واقتران هذه الهيمنة بالمعايير المزدوجة والتوظيف اللاأخلاقى لقيم ومفاهيم حقوق الإنسان بالشكل الذى يخدم المصالح الغربية وبشكل انتقائى يفرغ هذه القضايا من محتواها الأخلاقى بشكل كبير.
وبالنهاية فإن معضلة المحكمة أنها أصبحت اليوم على المحك وكل المؤشرات والتهديدات الصادرة عن الشريكين الأمريكى والإسرائيلى بهذا الصدد، ومن بينها الخطاب الذى أرسله مجموعة من النواب الجمهوريين الأمريكيين، تكشف مجددا عن التعالى الأمريكى والإسرائيلى، وأن البلدين يعتبران نفسيهما فوق القانون وفوق التنظيم الدولى وفوق البشر الآخرين، أى أنهما الرمز الحى لفكرة العنصرية والتطهير العرقى، وكل المفاهيم المنافية للعدالة والحق.
* نقلا عن ” المصري اليوم “