ترافقت حرب 1982 في لبنان مع بداية تأسيس حزب الله والتي ألقت بظلالها على هذا التأسيس، وخروج منظمة التحرير من بيروت، وما بين التأسيس والولادة كانت تفجيرات بيروت 1983 نقطة التحول الأولى، والتي أودت بالمئات من الجنود الأمريكيين والفرنسيين والذين كانوا ضمن القوة المتعددة الجنسيات في لبنان، وتفجير صور وغيره، ما أعطى ذلك زخماً كبيراً للحزب منذ نشأته. فالفراغ الذي تركته منظمة التحرير وراءها، يضاف إلى ذلك غياب مؤسس حركة أمل موسى الصدر.
وهي عوامل بالمجمل فتحت الطريق لولادة حزب يرتبط خارج الجغرافيا الوطنية، بحسب ما صرح أمينه العام مراراً وتكراراً.
ولادة الحزب في بيروت كانت تقتضي أن تكون نخبة الحزب من المثقفين، وأن يكون سياسياً جماهيرياً بامتياز، خصوصاً أن العاصمة بيروت كان لها ميزة ثقافية هامة، غير أن حرب 1978 التي سبقت ولادة الحزب كانت قد ألقت بظلالها على المشهد، فالحرب تسببت بهجرة عشرات الآلاف من أبناء القرى الشيعية في الجنوب، وأصبح استقرارهم في بيروت وضواحيها مادة صلبة وهو ما جعل امتداد الحزب يتجه من بيروت نحو الجنوب، والذي بقي يشعل فكرة البطولات، خصوصاً وأن المسافة كانت قريبة من الثورة الفيتنامية، ودور الإعلام الفلسطيني في بيروت والذي كان له صدى كبير في المشهد، حتى أصبحت الرحلة إلى الجنوب تعني الذهاب إلى مواطن البطولة.
غير أن حركة أمل كانت جسماً كبيراً يحول دون فرض حزب الله أجندته على المشهد اللبناني، ومع دخول حركة أمل في صراعات مريرة ضد مختلف الأطياف اللبنانية، خصوصاً الحلفاء السابقين مثل القوميين وقوى اليسار ثم حرب المخيمات الفلسطينية التي استمرت سنوات واستنزفت حركة أمل تماماً، ما بين بيروت وصولاً إلى أطراف مدينة صيدا، ثم ظهور حزب الله كوسيط محايد بين الفلسطينيين وحركة أمل، ثم الاشتباك الأخير بين حركة أمل وحزب الله والحرب الدموية بينهما.
كل ذلك زاد من قوة حزب الله، وأضعف حركة أمل، فالحزب تحالف مع الفلسطينيين واعتمد سياسة الانفتاح على الجميع، وبذلك أصبح الحزب يملك مشروعاً سياسياً في لبنان، على خلاف حركة أمل والتي انشق كثيرون عنها صوب حزب الله.
هنا كانت فكرة الزحف نحو الجنوب، بعدما كانت إسرائيل قد انسحبت من لبنان محتفظة بشريط حدودي في جنوبه، وأخذت السياسة شكلها الجديد، فالمعركة التي تدار هناك داخل الشريط الحدودي الذي كانت تسيطر عليه ميليشيا “أنطوان لحد” الجنرال اللبناني السابق والذي ذهب يقود قوة بشرية تشكل حزاماً أمنياً لإسرائيل، ما جعل معركة تحرير الجنوب تعني أولاً التوجه نحو عناصر جيش أنطوان لحد منذ البداية وطوال مسيرة التحرير.
المفاجأة كانت في عام 2000 عندما أخذت حكومة اليسار الإسرائيلية بزعامة إيهود باراك قرارها التاريخي بالانسحاب من الجنوب اللبناني لأسباب وعوامل سياسية منها دخول إسرائيل في ملفات التسوية مع الفلسطينيين، وبذلك طوت إسرائيل صفحة مهمة من احتلال لبنان. غير أن هذا المشهد أعيد تفسيره في الساحة اللبنانية بمثابة انتصار تاريخي لحزب الله، ما جعل الحزب يظهر وقد عاد برأس كليب، وبهذه الهالة المصطنعة، وحّد الحزب المشهد اللبناني خلف ظهره، واتجه نحو بيروت العاصمة، لكنه أخذ البندقية معه، وهناك بدأت رحلة تطويع المشهد اللبناني بالقوة، ودخل لبنان تحت وطأة احتلال جديد هو سلاح حزب الله، والذي تجلى باغتيال الرئيس رفيق الحريري وجملة الاغتيالات السابقة واللاحقة، حيث بقيت أصابع الاتهام موجهة نحوه، وصولاً إلى المحكمة الجنائية الدولية في اغتيال الحريري، ثم مروراً بالمسألة السورية، والتي تمدد بعده الحزب نحو العراق واليمن وغيرها، وأدخل نفسه في مواجهة مع العديد من الدول العربية، في صورة لم تكن بالحسبان، ناهيك عن حروب الظل، من خلال سلاح المخدرات الذي تجاوز الحدود العربية والدولية وحتى القارات.
كانت معادلة حزب الله سابقاً تتمثل في السيطرة على بيروت من خلال السيطرة على الجنوب اللبناني، غير أن الجنوب بات اليوم عبئاً كبيراً على الحزب، فالمعادلات السياسية تبدلت، والبطولات الأسطورية لم تعد تقنع الجمهور، فالناس باتت تدرك أن حرب تموز كانت إعلامية أكبر منها حقيقية، وأن لبنان كان الخاسر الأكبر بفعل الدمار الكبير الذي لحق به، وأن النتائج السياسية لتلك الحرب كانت تتمثل في كسر إرادة الشارع اللبناني، وفرض هيمنة لغة السلاح عليه، وتعطيل الحياة السياسية ما أوصل لبنان إلى شفير الهاوية.
اليوم، وأمام الضربات القاسية التي يتلقاها الحزب في الجنوب، والدمار الذي طال أكثر من نصف قرى الجنوب، بما يفوق ما حدث عام 2006، وعجز الحزب التام عن مواجه حقيقية مع إسرائيل، والاكتفاء بردود استعراضية لم تقنع جمهور الحزب نفسه، فالحزب في ورطة كبيرة، فلا هو قادر على الدفاع المفترض عن الجنوب، ولا يملك القدرة على إدارة معادلة سياسية أو عسكرية في المشهد، وفوق ذلك لا يوجد في الأفق قوى داعمة تعيد إعمار الجنوب الذي قاده الحزب للدمار من جديد. وبالتالي يصبح مشهد الهروب من الاستحقاق السياسي والعسكري يكمن في معادلة الاستجابة للرحيل عن الجنوب، أو أن الحزب سيبقى بين نارين، في مواجهة الضربات الإسرائيلية من جانب، ومواجهة أهل الجنوب، والذي دخل اليه الحزب عام 2000 عامر البنيان، وبات اليوم كتلة من الأنقاض.
هنا بالضبط يعود الحزب إلى حلقة النشأة والمنشئ، فالحزب خسر آلاف القتلى في المشهد السوري، ويستمر النزيف اليوم على جبهتين من خلال قصف إسرائيل لقواعد الحزب في سوريا ولبنان، ويترافق ذلك مع أفول نجم حسن نصر الله، الذي لم يعد تلك الشخصية التي ربحت إعلامياً ما بين عامي 2000 و2006. ثم إن الحزب لا يملك برنامجاً يقنع فيه خصومه الذين ازدادت مساحتهم، ولا يستطيع إقناع حتى جمهوره خصوصاً في الجنوب، الذين يعيشون بين معادلة الدمار والظروف الاقتصادية القاسية التي أحاطهم بها الحزب خلال السنوات القليلة الماضية.
هنا أمام حلقة النشأة والمنشئ، يصبح حزب الله ثقيل الخطوات قابلاً للتفكك، أمام صراعات داخلية قد تنشأ في داخله في أي لحظة، خصوصاً إذا غاب أمين عام الحزب عن المشهد، فالمرجعية السياسية القادمة ستكون هشة، تشبه إلى حد بعيد هشاشة الحزب والتي ستصبح أكثر وضوحاً إذا ما سكنت الحرب في الجنوب، وأدار الحزب ظهره إليه، وفي الأفق شمالاً لديه مزارع المخدرات التي تمتد من البقاع الغربي وصولاً إلى أقصى الشمال الشرقي حيث مواطن الممنوعات بأطيافها.
ليس سهلاً أن يذهب الحزب إلى بيروت بالدلالة السياسية كما كان في السابق، وبالتالي قد يكون خيار المنشئ هو إعادة صناعة المشهد العراقي في لبنان، بما يعني ذلك إسناد الحزب الضعيف للوقوف مجدداً، عبر إعادة تعميم عصر الميليشيا، من هنا رأينا استعراضات جماعات إسلامية سنية في حمل السلاح في شمال لبنان، ورأينا أيضاً انكشاف القواعد العسكرية لحركة حماس علناً خارج المخيمات الفلسطينية، وهذا الإعلان بحد ذاته يعتبر تحدياً للدولة والجمهور والدستور اللبناني، فما هو الخيار الذي تسير إليه الأمور؟
هل يذهب حزب الله إلى إحياء الدولة من جديد، بما يضعه هو تحت المساءلة، وهل يمكنه الذهاب إلى مراجعات سياسية داخلية ما لم يتخلص من الصقور في قيادته، وهل يمكنه أن يتخلى عن سياسة التبعية لإيران، وبالتالي ثمة مسائل كثيرة معقدة، ليست متوفرة في الحزب، ما يجعل فكرة تعميم المليشيا وإغراق لبنان في أجواء أكثر فوضوية هو المشهد المرعب، في معادلة خروج الحزب من دائرة البطولة الوهمية، إلى دائرة المواجهة الحقيقية مع الذات والشعب اللبناني، الذي لا يريد أن يرى مشهد هيمنة السلاح في الشارع ولا حرب المخدرات مع المحيط العربي والدولي.
هجرة حزب الله إلى الشمال وخلف ظهره الجنوب المدمر، وانكشاف الحقيقة الزائفة، كلها أسئلة لليوم التالي بعد توقف الحرب.