باتت الديمقراطية الأميركية، اليوم، على المحك، بعد اشتداد حراك الاحتجاجات في صفوف طلبة الجامعات الأميركية ضد الحرب في غزة ومسلسل الإبادة الجماعية للفلسطينيين وتجويعهم وتهجيرهم القسري، ما يجعل مآل قضيتهم ومصائرهم تتجه إلى المجهول. بعض وكالات الأخبار أطلقت على ما يجري بأنه {ثورة يقودها الطلاب المتضامنون} مع سكان غزّة، حيث ارتفعت حدة الاحتجاجات، واتسعت رقعة الغضب، لتشمل المزيد من الجامعات هناك.
شرارة الغضب أطلقها طلبة جامعة كولومبيا في نيويورك، بعد أن رفضوا ضغوط السلطات الأمنية وأساليبها بالمنع والقمع، بفضّ اعتصامٍ رافضٍ لاستمرار الحرب في غزّة، وامتدّ ليشمل جامعات النخبة في ولاية تكساس وفلوريدا وكاليفورنيا. وليس ببعيدٍ عن ذلك، ما كتبه الروائي العراقي المغترب سنان أنطون، وهو أستاذٌ في جامعة نيويورك، في مقالة نشرتها صحيفة” القدس العربي” اللندنية، بتأريخ 27-4-2024، بعنوان” قمع التضامن مع غزّة”، المقالة هي شهادةٌ حيّةٌ لما يجري في الجامعات الأميركية، حيث تعرّض هو أيضاً للاعتقال، بوصفه من الكادر التدريسي المتضامنين مع الطلاب في احتجاجاتهم ضدّ آلة الحرب الصهيونية، التي جعلت قطاع غزّة، يكاد يكون، خلواً من مظاهر الحياة، ليس هناك سوى الدمار، وإذ يُذكر في أشرطة الأخبار، بأنّ إعمار غزّة يتطلّب إنفاق 40 مليار دولار، يتبيّن حجم الدمار المخيف في غزّة، يقول أنطون أنّه بعد أنشأ طلّاب الجامعة مخيَّم اعتصامٍ داخلها، استدعت إدارة الجامعة الوحدة الخاصّة في شرطة نيويورك، التي تُسمّى “مجموعة الرد الاستراتيجي” هذه الوحدة التي وُجِّهت اليها سهام الانتقادات لدورها السيّئ الصيت، لاستخدامها العنف المفرط ضد تظاهرات حركة “حياة السود مهمة”، وفيما يتعلّق بتفاصيل اعتقاله وهو وزملائه ومعهم الطلبة يقول” حين علمنا باستعداد الشرطة لاقتحام المخيّم والقبض على الطلاب، وقف الأساتذة مشكّلين حاجزاً بشرياً من صفّين لحماية الطلبة. لكنَّ رجال الشرطة قبضوا علينا وعلى عشرات الطلبة وقيّدوا معاصمنا واقتادونا إلى عربة الشرطة التي أخذتنا إلى مركز الشرطة الرئيسي. بعد أخذ معلوماتنا وصورنا، وضعونا في زنازين مع زملائنا وطلابنا لساعات، ثم أطلقوا سراحنا بعد تحديد موعدٍ للمثول أمام المحكمة”، في شهر آيار بتهمة “ التجاوز”.
ومن هنا نتساءل؛ أين هي الديمقراطية الأميركيّة من كلّ ذلك، أين هي حريّة التعبير والاحتجاج السلمي، من قمع واعتقال طلّابٍ مسالمين، تظاهروا ليطالبوا بإيقاف الدعم الأميركي اللّامحدود للكيان الصهيوني، وبإيقاف هذه الحرب الوحشية ضد الفلسطينيين. هذا النموذج الأميركي للديمقراطية أمام امتحانٍ عسير، على مرأى دول العالم أجمع، وشعوبها التوّاقة للحرية والعدالة، التي تستشهد كثيراً، بالنموذج الأميركي. ولطالما كانت الإدارة الأميركية، تحاسب دول العالم المختلفة، وخاصةً دول العالم الثالث، على انتهاكات حقوق الإنسان فيها، من قمعٍ لحرية الرأي والاعتقال والتعذيب وعقوبة الإعدام. وها هي منظمة العفو الدولية، تدين ما يجري من ممارساتٍ قمعيةٍ في الجامعات الأميركية، في تدوينةٍ لها على منصة “إكس”، بالقول أن الجامعات الأميركية ممثّلة بإداراتها” واجهتِ الاحتجاجات الداعمة لحقوق الفلسطينيين بعرقلتها وقمعها، بدلاً من السماح لطلّابها بممارسة حقّهم في الاحتجاج وحمايته، بذلت جهدها لقمع هذا الحق، حتى أنّها أشركتِ السلطات المحلية وطالبت باعتقال المحتجين وأوقفتِ الطلاب المشاركين في المظاهرات السلمية عن الدراسة”.
غالباً ما يُقرن هذا الحراك الطلّابي الأميركي الآن، ضدّ الحرب في غزّة وتأييد أميركا للكيان الصهيوني رغم كل ممارساته الدموية ضدّ الفلسطينيين، بالحراك الاحتجاجي ضد حرب أميركا في فيتنام في ستينات القرن الماضي، كما اشتهرت آنذاك، عبارة تورّط أميركا في “المستنقع الفيتنامي”. ويذكر تقريرٌ للجزيرة نت، بعنوان” تمرّد طلاب الجامعات يكتب فصلاً جديداً في التاريخ الأميركي الحديث” كتابة محمد المنشاوي، بأنّه قبل أكثر من نصف قرن، عصفتْ حركة احتجاجاتٍ طلابيةٍ بمختلف جامعات أميركا. ولم يكنِ الأميركان، عامةً، يقدّرون قوّة الغضب في صفوف طلّاب الجامعات، حتى توّرطت الإدارة الأميركية، آنذاك، باستدعاء قوّةٍ من الحرس الوطني في ولاية أوهايو لإنهاء مسيرة احتجاجٍ داحل حرم جامعة كينت في شهر آيار عام 1970، تعارض التورّط الأميركي في فيتنام، واحتجاجاً على وجود الحرس في الحرم الجامعي وتورّطهم في تجنيد طلاب، وكانت نتيجة فضّ المسيرة المذكورة صدمةً للشعب الأميركي، حين قُتل أربعة طلاب وأصيب العشرات، ويستطرد تقرير الجزيرة نت بالقول أنّ ذلك” مثّل نقطة تحوّلٍ رئيسي في المزاج العام الأميركي ضدّ الحرب، ودفع لاحقاً بالرئيس ريتشارد نيكسون لتكليف وزير خارجيته هنري كيسنجر بالعمل على إنهائها”.