بعيدا عن المصطلحات والتّنظير فإنّنا سنركّز هنا على ما يعرف بالوطن العربيّ حسب الفهم المعاصر، وهو تلك الأقطار الّتي تتشارك فيما يُعرف بالجامعة العربيّة، والتّي تمتدّ من المحيط الّذي كان هادرا، إلى الخليج المعادي للثّورات. وكي لا ننسلخ عن الماضي القريب فإنّه يجدر التّذكير، بأنّ ما يعرف بالدّول العربيّة، لم يكن معروفا قبل الحرب الكونيّة الأولى، فجميع هذه البلدان كانت تخضع للدّولة العثمانيّة، التّي شارك العرب في هدمها، على أمل التّحرّر، إلّا أنّ الدّول الإستعماريّة وتحديدا بريطانيا وفرنسا تقاسمتها -حسب اتّفاقيّة سايكس- بيكو- 1916، وما تبعها من وعد بلفور-نوفمبر 1917 لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين قبل أن تضع الحرب أوزارها، وكان لإيطاليا نصيب من هذه “الغنيمة” عندما استعمرت ليبيا.
وهنا لا بدّ من التّنويه أنّ الرّابطة الّتي كانت تجمع الشّعوب الّتي تخضع للسّيادة العثمانيّة ومنهم العرب هي الرّابطة الإسلاميّة، والّذي يقرأ خطابات ومراسلات شريف مكّة الحسين بن عليّ سيجد أنّ الفهم الأسلاميّ يطغى عليها، في حين أنّ خطابات ابنه الملك فيصل الأوّل، الّذي تخرّج من كلّيّة سانت هيرست العسكريّة في بريطانيا وتأثّر بالفكر القوميّ في أوروبّا، كانت خطاباته قوميّة يبدؤها بـ ” أيها الأخوة العرب” ويتكلّم فيها عن أمجاد العرب، في حين كانت خطابات والده تبدأ بـ ” أيّها الأخوة المسلمون” وتتكلّم عن أمجاد المسلمين. وبغضّ النّظر عن تفاوت الآراء حول الخروج على العثمانيّين أو الولاء لهم، إلّا أنّ نتائج الحرب الكونيّة الأولى كانت خضوع المنطقة العربيّة للإستعمار الأوروبّيّ، واستعر هذا الإستعمار بشكل جليّ بعد اكتشاف البترول، وعندما اشتعلت ثورات الشّعوب للتّحرّر، ولم يعد المستعمرون قادرين على إحكام سيطرتهم، بعد أن رسّخوا الإقليميّة اضطرّوا إلى إنهاء احتلالاتهم المباشرة إلى احتلالات غير مباشرة للحفاظ على مصالحهم في المنطقة، وذلك من خلال تقسيم المنطقة بعد الحرب الكونيّة الثّانية إلى دويلات وأقاليم لكلّ منها حدود وعلم ونشيد وطنيّ، ونصّبوا عليها حكّاما موالين لهم، كما قاموا بتأسيس دولة إسرائيل عام 1948 في فلسطين؛ ليعزلوا أقطار الشّمال الإفريقيّ عن المشرق العربيّ، ولتكون لهم قاعدة عسكريّة متقدّمة في المنطقة. كما أنّهم اقتطعوا لواء الإسكنرونة في الشّمال السّوريّ وتركوه لتركيّا، ومنطقة الأحواز جنوب العراق وتركوها لإيران.
وهنا لا بدّ من التّذكير بأنّه لم تكن حدود بين الأراضي العربيّة قبل نشوء “دول الأقاليم”، وقد سمعت من الشّاعر الشعبيّ المرحوم أبو سعود الأسديّ المولود في قرية دير الأسد في الجليل الفلسطينيّ قوله:” والله يا عمّي كنّا نفطر في دمشق، ونتغدّى في بيروت، ونتعشى في حيفا في اليوم نفسه.” ومن سخريات المرحلة الحاليّة أنّ العربيّ حامل جواز سفر أجنبيّ يحترم عند دخوله دولة عربيّة أكثر من المواطن حامل جنسيّة هذا البلد، أو جنسيّة دولة عربيّة أخرى.
وبما أنّ الحديث عن القوميّة العربيّة فلا بدّ هنا من التّذكير بأنّ “الوطن العربيّ” فيه مواطنون أصليّون من غير العرب، كالكرد في شمال العراق وسورية، والأمازيج في بلدان المغرب العربيّ، وبعض القبائل الإفريقيّة في السّودان، وقد خضعوا للعرب من باب “الأخوة في الدّين”. كما يوجد مواطنون أصليّون من أتباع الدّيانة المسيحيّة، ويجمعهم مع إخوانهم المسلمين الإنتماء القوميّ. وسنقفز هنا عن معاناة غير العرب وغير المسلمين في الوطن العربيّ بسبب الجهل وسوء الأنظمة الحاكمة.
وتقسيم العالم العربيّ إلى دويلات كان كارثة بكلّ المقاييس على الأمّتين العربيّة والإسلاميّة. ولو قامت دولة عربيّة واحدة موحّدة لغيّرت وجه التّاريخ المعاصر، ومن الغريب أنّ غالبيّة الأنظمة العربيّة الحاكمة تحتمي بمستعمريها بدلا من شعوبها، وتحرص على خدمة المستعمرين أكثر من خدمتها لأوطانها وشعوبها.
عودة إلى القوميّة العربيّة
عندما استلم زعيم الأمّة العربيّة جمال عبدالنّاصر الحكم في مصر، تبنّى الفكر القوميّ، واستقطب الشّعوب العربيّة من المحيط الّذي كان هادرا إلى الخليج الّذي ما عاد ثائرا، وعندما توفّي في سبتمبر 1970م ماتت معه العروبة، وتكرّست الإقليميّة بشكل واسع وعميق، ممّا رسّخ النّفوذ الإمبرياليّ بشكل واسع، وبعد حرب أكتوبر 1973م وما تبعها من اتّفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، تفسّخ العالم العربيّ بشكل ملحوظ، ورغم مؤتمرات القمّة العربيّة والبيانات الرّنّانة الّتي تصدر عنها، واتّفاقات “الدّفاع المشترك بينها”، والّتي ثبت أنّها مجرّد كلام لتضليل الشّعوب، وثبت هذا من خلال الحروب الأهليّة والحروب بين الدّول العربيّة ومنها، الحرب الأهلية في لبنان من 1974-1989م، حرب مصر على ليبيا في عهد السّادات، حرب العراق على إيران واحتلال العراق للكويت عام 1990م، والحرب الأهليّة في الجزائر، والّتي عرفت بالعشريّة السّوداء بين 1992-2002، وتغذيّة ومشاركة دول عربيّة في احتلال العراق وتدميرة وقتل وتشريد شعبه عام 2003. وتقسيم السّودان عام 2006م، وما تبعها بما سمّي بالرّبيع العربيّ، الّذي أسقط نظام القذّافي في ليبيا عام 2011م، وظهور تنظيمات إرهابيّة تتستّر بالدّين مثل داعش وجبهة النّصرة وأخواتهما، وجرى تمويلها وتسليحها بأموال البترول العربيّ، لخدمة المشروع الأمريكيّ “الشّرق الأوسط الجديد” والّذي يسعى إلى إعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفيّة “سنّي وشيعيّ” متناحرة، وتصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ التّوسّعيّ، وقد شنّت هذه التّنظيمات ولا تزال حروبها التّدميريّة في سوريا والعراق. وكذلك حرب ما يسمّى بالتّحالف العربيّ على المستضعفين في اليمن منذ العام 2015. والحرب الأهليّة في السّودان والّتي دخلت عامها الثّاني. وما تبع ذلك من تغيير التّحالفات واختلاق أعداء وهميّين من خلال التّطبيع ومنه الأمنيّ والعسكريّ بين إسرائيل ودول عربيّة لمحاربة إيران، والّذي تبعه ما يسمّى “بالسّلام الإبراهيميّ” بين دول عربيّة وإسرائيل.
الشّعوب العربيّة
وفي مرحلة الموات هذه، والّتي جرى الإعداد لها بعناية منذ سبعينات القرن الفارط، والّتي طرح فيها بريجنسكي مستشار الأمن القوميّ الأمريكيّ الأسبق قضيّة” إعادة تثقيف شعوب المنطقة، واشتغلت عليها طاحونة إعلام هائلة، لسلخ الشّعوب عن قضاياها المصيريّة، وترسيخ الإقليميّة بشكل واسع، مستغلّة الجهل السّائد والّذي تساهم فيه المناهج الدّراسية في مختلف المراحل التّعليميّة، وهنا يجدر التّذكير بأنّ أكثر من مئة مليون عربيّ ويشكلّون 25% من تعداد العرب يعانون من الأمّيّة الأبجديّة لعدّة أسباب منها الحروب الدّاخليّة، وأن نسبة التّعليم الجامعيّ هي أقلّ من 5% من العرب. وقد نجحت عمليّة إعادة تثقيف الشّعوب بشكل ملحوظ، فباتت الشّعوب تسبح في بحور الجهل، ونجحت الأنظمة الحاكمة في تدجينها من خلال تهديدها بقطع الأرزاق وغيرها. ولهذا فإنّ هذه الشّعوب ورغم نقائها وصحّة انتمائها باتت في حالة ضياع غير مسبوق، وباتت مغيّبة عن مصالحها، ونجحت الأنظمة بإخراج الأمّة من التّاريخ، وقد أثبتت الحرب الحاليّة على قطاع غزّة، وبعد مرور سبعة وخمسين عاما على احتلال عام 1967 أنّه لا يوجد عرب ولا يوجد مسلمون.
الحرب على غزة:
كشفت الحرب الحاليّة على غزّة عن أشياء كثيرة كان يتمّ التّستّر عليها، فأمريكا وبعض حلفائها الأوروبّيّين شاركوا في هذه الحرب بشكل علنيّ، ورغم الدّمار الهائل الذي لحق بقطاع غزّة واستهدف البنى التّحتيّة ومساكن المواطنين، وسقوط أكثر من مئة وخمسين ألف مواطن بين شهيد وجريح، إلّا أنّ ذلك لم يمنع الولايات المتّحدة من استعمال الفيتو أكثر من مرّة في مجلس الأمن، كي لا يُتّخذ قرار بوقف الحرب. كما أثبتت هذه الحرب أنه لا وجود لحقوق الإنّسان ولا للقانون الدّوليّ، ولا لاتّفاقات جنيف الرّابعة بخصوص الأراضي الّتي تقع تحت الاحتلال العسكريّ. ولن يغيب عن البال أنّ العرب والعجم لا يزالون يشاركون في حصار القطاع المنكوب، وتجويع مليونين ونصف المليون إنسان فيه.
كشف المستور
ورغم الأحاديث الرّنّانة عن الأخوّة العربيّة والإسلاميّة، إلّا أنّه ثبت أنّها مجرّد شعارات رنّانة، وكما يبدو فإنّ غالبيّة الأنظمة العربيّة الّتي تعتمد على الحماية الأمريكيّة لبقائها في السّلطة، فإنّها أيضا تستمدّ بقاءها من الولاء لإسرائيل، ولنتذكّر أن بلينكن وزير خارجيةّ أمريكا في أوّل زيارة له لتل أبيب بعد 7 أكتوبرقد صرح أمام وسائل الإعلام مخاطبا نتنياهو: لقد جئتكم كيهودي قبل أن أكون وزير خارجيّة لأمريكا، وعندما تنقّل بين عواصم عربيّة فإنّه من المؤكّد لم يسمع من أيّ مسؤول عربيّ أو مسلم قوله: نحن والفلسطينيون عرب أو مسلمون.”
الضّحك على الذّقون
صرّح مسؤولون أمريكيون بدءا من الرّئيس بايدن مرّات عديدة بأنّهم يدعون إلى حلّ الدّولتين عن طريق التّفاوض، وتبعهم بعض حلفائهم في أوروبا وبعض البلدان العربيّة، لكنّ أيّا منهم لم يتحدّث عن قرارات الشّرعيّة الدّوليّة، ولا عن القانون الدّوليّ، ولم يدع لوقف الاستيطان، وهذا يعني أنّ أمريكا غير معنيّة بحلّ الصّراع الذي طال أمده، ويبدو أنّهم على قناعة بأنّ مصالحهم في المنطقة مؤمّنة من خلال اسرائيل قويّة وعرب ضعفاء، وهذا ما يرتضيه القادة الأشاوس.
يبقى أن نقول بأنّه إذا صلُح الحكّام صلُحت الشّعوب والحديث يطول.