الفلسفة في سياقها العام, هي قسم من الثقافة الروحيّة للبشريّة, وشكل للوعي الاجتماعيّ الذي تكمن وظيفته المميزة في وضع نظرة متكاملة إلى حد بعيد عن العالم وجودا وسيرورة وصيرورة, وعن الفهم المعلل نظريّاً ومنهجيّاً لأكثر القوانين عموميّة في الطبيعة والمجتمع والتفكير البشريّ. وتقوم أصول الفلسفة في الممارسة الاجتماعيّة الواقعيّة, وهي تعكس على نحو متميز قضايا وتناقضات الممارسة الاجتماعيّة, وقضايا عمليّة معرفة الواقع وتحويله, وتؤثر بالإضافة إلى ذلك على تطور المجتمع والتاريخ وعلى تطور الإنسان وعمليّة معرفته.
إذا كان هذا هو الفهم العقلاني النقدي للفلسفة, إلا أن هذه الفلسفة في سياق فهمها وممارستها معاً من قبل حواملها الاجتماعيّة, كثيراً ما انحرفت عن مسارها المعرفيّ الصحيح, وذلك عنما تخلى حاملها الاجتماعيّ عن توظيفها في خدمة الإنسان ورقيّه, وجعل منها أداةً معرفيّةً لخدمة مصالح أنانيّة ضيقة لهذه الطبقة المستغلة أو تلك, أو لهذا الحاكم المستبد أو ذاك. أو أنه – أي الحامل الاجتماعيّ – جعل منها فلسفة لاهوتيّة أو ميتافيزيقيّة أو مثاليّة ذاتيّة أو مثاليّة موضوعيّة, أو لا أدريّة, ذات تعاليم مطلقة فوق الأحزاب والطبقات والمجتمع والدولة والواقع برمته, الأمر الذي جعل من جوهرها مجموعة من الرؤى المشبعة بالخيال والحدْسيّة والأسطورة والغيبيات والعواطف أو الوجدانيات وغيرها من وسائل أو طرق التفكير التي لا تربط الفكر بالواقع, أي تتجاهل أن هذا الفكر نتاج الواقع ولم يُفرخ مجرداً. علماً أن يعض هذا الحامل الاجتماعي (المثالي في تفكيره) يحاول ربط الفلسفة أو الفكر بشكل عام بالواقع, إلا أن طريقة أو أسلوب هذا الربط هو ليس أكثر من محاولة لمنح هذا الفكر القيمة المطلقة أو القدسيّة التي تفرض على الواقع الذي تحاول أن تربطه بها أن يرتقي إليها, وهنا لا يختلف ارتباط الفلسفة المثاليّة بالواقع عن ارتباط الدين بالواقع, ومن هذا الموقف المنهجي يأتي ارتباط الفلسفة بالدين من حيث الجوهر والممارسة.
إذن إن تاريخ الفلسفة عند الفلاسفة المثاليين عموماً هو ليس أكثر من ذيل لتاريخ اللاهوت, أو هو حصيلة الابداع الذاتيّ المستقل لمفكرين منفردين يعملون بوعي أو بدونه على فصل أو عزل مسيرة الفكر الفلسفيّ عن التطور الواقعيّ لتاريخ المجتمع والعلم معاً.
إن تاريخ الفلسفة الواقعيّة في الحقيقة هو علم فلسفيّ وتاريخيّ في الوقت نفسه. فالفلسفة الواقعيّة توفر لنا التالي:
1- دراسة فهم مسيرة وصيرورة الفكر الإنسانيّ.
2- واستيعاب التجربة التاريخيّة العظيمة المتعلقة بسيرورة معرفة الإنسان لعالمه.
3- كما يطلعنا تاريخ الفلسفة أيضاً على كيفيّة ظهور أشكال الفكر النظريّ ومقولاته.
4- وعلى طرائق المعرفة العلميّة الجدليّة في التفكير.
5- مثلما يطلعنا تاريخ الفلسفة على الجذور المعرفيّة للمثاليّة والميتافيزيقيّة واللاهوتيّة, وأسباب الضلالات النظريّة أو الفكريّة لمفكريّ الماضي, ولتحذرنا من الأخذ بها أو اتباعها في المستقبل.
6- مثلما تحذرنا الفلسفة الواقعيّة النقديّة وتاريخها من الذاتيّة والجمود العقائديّ في النظريّة والممارسة على السواء.
7- هذا إضافة لكونها تزرع الثقة بالنفس والأمل بقوة العقل الإنسانيّ وقدرته على معرفة العالم وقوانينه.
8- كما تساعد على إغناء الذاكرة الإنسانيّة بالمعارف الفلسفيّة التي أبدعها العقل الإنسانيّ خلال مسيرته الطويلة, وعلى استيعاب أحسن تقاليد هذا الفكر.
9- وتعلمنا الفلسفة العقلانيّة النقديّة وتاريخها أن نستشف من وراء الفكر المدرسيّ (السكولائيّ) مصالح القوى المستبدة والمسيطرة في المجتمع, وتكشف كل تلك المذاهب الفكريّة العفنة التي تستخدمها هذه القوى المستبدة وأدواتها من مفكرين وفلاسفة ومشايخ السلطان, وبذلك يزودنا تاريخ الفلسفة العقلانيّة بالسلاح للنضال ضد المثاليّة والأيديولوجيا الرجعيّة والجموديّة عموماً.
كاتب وباحث من سوريّة.
d.owaid333d@gmail.com