تلقي أزمة غزة ارتداداتها على الداخل الأميركي، وبرغم التسليم بأن الناخب الأميركي لا يكترث كثيراً بالقضايا الخارجية، وأنه يضع في أولوياته الرئيسة القضايا الداخلية ونمط حياته اليومية، إلا أن استمرار أزمة غزة، يجعل المشهد السياسي والأمني مفتوحاً على كثير من السيناريوهات والخيارات المتعددة، بعد أن تم تحرير أربعة محتجزين، ما يشير إلى أن التهدئة المنشودة أمامها الكثير من التبعات المهمة، والمفترضة التي يجب العمل عليها في الوقت الراهن.
وفي ظل خيارات صعبة وتحولات حقيقية والتزامات وضمانات مطلوبة من الوسطاء خاصة الجانب الأميركي، ما يؤكد أن الطريق ما زال وعراً، وأن هناك الكثير من المتطلبات التي سيتم العمل عليها مع توقع حدوث كثير من المتغيرات في مراحل التطبيق على مدار الأشهر المقبلة، بافتراض نجاح الوسطاء في مهمتهم، أو تعثرهم لأسباب تتعلق بعودة تشدد كل طرف، ومضي الحكومة الإسرائيلية في خيار التصعيد برغم استقالة وزيري مجلس الحرب بيني جانتس، وغادي آيزنكوت مؤخراً. ولعل ما طرحه الرئيس الأميركي بايدن، وتحفظت الحكومة الإسرائيلية على بعض نقاطه يؤكد أننا أمام مواقف مترددة ومرتبكة، وقد تحتاج حسماً غائباً نتيجة لعدم وجود الأدوات المؤثرة والقوية على الطرفين إضافة لتشعب إطار العمل ليس بسبب الوسطاء، بل أيضاً للمرجعيات التي يتم العمل علىها.
ورغم وجود ساسة كبار في الإدارة من نوعية مدير المخابرات الأميركية، ويليام بيرنز ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، فإن التحرك الأميركي الراهن يحتاج إلى قوة دعم وتحركات مكثفة، خاصة أن الإدارة لم يبق لها سوى عدة أشهر قبل إجراء الانتخابات الرئاسية، وبافتراض عودتها إلى البيت الأبيض مجدداً، فإن تركيزها لن يكون على الشرق الأوسط، وإنما مجدداً على جنوب شرق آسيا.واتساقاً مع الرهانات التي تؤكد أن الشعب الأميركي سيختار، على ما يبدو، بين سيناريو سيئ، وآخر أسوأ، فإن أي تغيير متوقع، خاصة عودة دونالد ترامب، سيدفع الأمور نحو التعقيد، وربما إجراءات صفرية، حيث اعترف لإسرائيل بـ«القدس موحدة»، ونقل السفارة الأميركية إليها، وأقدم على طرح صفقة القرن، وتعامل مع الصراع العربي- الإسرائيلي بكل تعقيداته بوصفه صفقة سيقدم على إتمامها.
ومن ثم، فإن الإشكالية الرئيسة تكمن في التحركات الأميركية الراهنة، والمتوقعة، والدور المتوقع الذي يمكن للإدارة أن تقوم به في دعم تحركات الوسطاء، وإتمام هدنة ولو أولية يمكن أن تستمر، ولا تطبق سوى مرحلتها الأولى، ثم تعود المواجهات مرة أخرى في ظل مخطط إسرائيلي لافت لاستخدام وتوظيف العمل العسكري، وعدم تنحيته ولو مؤقتاً، ما يؤكد أن إتمام أي هدنة مرتبط بتغيير السلوك الراهن للحكومة الإسرائيلية بصرف النظر عن الرهانات المتوقعة على التغيير الحزبي للحكومة حتى مع تتالي الاستقالات، ومن ثم تكريس استراتيجية استخدام القوة، الأمر الذي أدى لتزايد شعبية رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وفق لنتائج استطلاعات الرأي مؤخراً، ما يؤكد أن حالة عدم الاستقرار في إسرائيل ستستمر في ظل ما يجري من خيارات محددة.
وبالتالي، فإن المتغير الحقيقي الذي قد يفرض نفسه سيرتبط بخيارات محددة، وعدم التسويف في الذهاب إلى حل خاصة، وأن كلا الرئيسين (بايدن وترامب) تم اختبارهما في مراحل سابقة، فالرئيس السابق ترامب لديه نسق عقيدي أيديولوجي، باعتبار الصراع العربي الإسرائيلي قابلاً للحل النهائي والحسم، ولهذا إذا عاد ترامب فقد يركز على أولوية صفقة القرن التي سبق وأن طرحت مع إعادة صياغة بعض نقاطها في إطار المستجدات الرئيسة، وهو ما قد يثير رد فعل كبير على المستويين العربي والدولي، في ظل اتجاه مباشر للحل، وعدم الدخول في مواجهات سياسية أو عسكرية بين الطرفين.
وفي حال استمرار الرئيس جو بايدن في منصبه، فقد يترجم ما اقترحه إلى خطة محكمة ومنضبطة، خاصة إذا تعثرت المحاولات الراهنة، أو توقف بعض مراحلها نتيجة للسلوك الإسرائيلي، أو عدم توافر الإرادة للعمل معاً في ظل احتمالات تغيير رؤية حركة «حماس» تجاه التهدئة، وربما أيضاً سيكون مخطط الحكومة الإسرائيلية لما يجري مهم على مستوى العمل على جبهة ثانية أو ثالثة مرشحاً في ظل ما يجري من تهديدات جبهة الشمال بكل متغيراتها الصعبة، أو ضم الضفة الغربية والأغوار والعمل على خيارات استباقية في الداخل الفلسطيني، بما يعجل بتغيير المشهد الراهن، واحتمالات انهياره في ظل مناخ إقليمي ودولي مختلف، وقد يدفع إلى مساحات من التجاذبات أكثر من التوافقات، وفي ظل تطورات سترتبط في كل الأحوال بنتائج الانتخابات الأميركية، والتي ستجري خلال أشهر محدودة بل، وأيضاً بنتائج انتخابات ستشهدها عواصم أوروبية عدة.
*نقلاً عن “الاتحاد”