في الكثير من دول الغرب الكبيرة دعوة إلى انتخابات مفاجئة، على الأقل في فرنسا وبريطانيا الشهر المقبل، وهناك انتخابات آتية في الولايات المتحدة في الخريف. على الرغم من الاختلافات النسبية في الظروف المصاحبة لكل تلك الانتخابات على حدة، فإن توجّهها في الغالب إلى “مغازلة العنصرية والشعبوية”، وهو الصوت السائد والأعلى في الحملات الانتخابية.
دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى انتخابات سريعة في فرنسا، بعد ظهور نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي. وقد فُهم من تلك النتيجة أن اليمين الفرنسي أخذ شريحة كبيرة من الأعضاء، وكان أصلاً قد فَقَد الكثير من أعضاء حزبه في الانتخابات الماضية في الجمعية الوطنية. البعض يرى أن الدعوة للانتخابات بهذه السرعة هي مغامرة قد تنتج منها أغلبية من اليمين تحكم فرنسا، من ثم يتعذّر التعايش بين مؤسستي رئاسة الجمهورية والجمعية الوطنية، فتدخل فرنسا في أزمة مستحكمة، وقد يؤثر ذلك في اقتصادها وفي علاقاتها الدولية.
ودعا ريتشي سوناك، رئيس وزراء بريطانيا، إلى انتخابات عامة مفاجئة أيضاً، وصفها البعض بأنها مغامرة بعد حكم حزب المحافظين الذي يرأسه امتد أربعة عشر عاماً، حيث شهد الحزب صعوداً وتراجعاً سريعاً، وخلافاً عميقاً داخل صفوفه. إلّا أن الاحتمال بعد الانتخابات المقبلة هو أن تتغير الهيكلية السياسية البريطانية من ثنائية (محافظون\عمال) إلى تراجع حزب المحافظين إلى الدرجة الثالثة، ويسبقه، كما هو متوقع، حزب يميني متعصب، هو حزب الإصلاح بقيادة نايجل فاراج، وهو شخص يحمل الكثير من العنصرية ضدّ الآخر. فيصبح هو حزب المعارضة الرئيسي!
هذه سابقة لم يحدث مثلها إلّا قبل قرن من الزمان، عندما حلّ حزب العمال الفتي وقتها إبان التحول الصناعي، بدلاً من حزب الأحرار الذي كان يشكّل في السابق ثنائية مع المحافظين!
في الولايات المتحدة، الاحتمال القائم هو أن يفوز دونالد ترامب بالانتخابات في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، على الرغم من كل ما اقترفه من تعدّيات خارج القانون، إلى حدّ إدانته في محكمة فدرالية، لأنه يخاطب الشعور القومي الانعزالي في أميركا!
ماذا يعني كل ما تقدّم؟ جميع زعماء اليمين الأوروبي يرفعون شعارات “لنجعل فرنسا أو بريطانيا أو أميركا عظيمة”، ومن يدرس تاريخ صعود الحزب النازي في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، والذي تسبّب بكوارث للعالم، يعرف أن شعار “لنجعل ألمانيا عظيمة”، هو شعار أدولف هتلر والحزب النازي بعد الهزيمة في الحرب العالمية الأولى. وقتها، كانت ألمانيا في أسوأ حال اقتصادي حتى أصبحت العملة لا تساوي (ورق التواليت)، وكان لا بدّ من كبش فداء يُصبّ عليه كل اللوم في هزيمة ألمانيا ووضعها الاقتصادي المتردي، فكان اليهود والغجر وباقي الشعوب غير الآرية، وباقي القصة معروف!
مارين لوبّن ونايجل فاراج هما على التوالي زعيما اليمين الفرنسي والبريطاني، يصبّان غضبهما على المهاجرين ويقولان إنهم السبب في تردّي البلاد واقتصادها، وليس لهم – أي المهاجرون – علاقة بقيم الجمهورية في فرنسا أو القيم البريطانية. في الولايات المتحدة أيضاً، يرى السيد ترامب أن القضية التي تعطّل أن تكون أميركا عظيمة هي قضية المهاجرين، إلى درجة أنه وهو رئيس، منع مواطني بعض الدول من دخول أميركا، وبينها دول إسلامية.
المهاجرون إلى أوروبا شريحتان كبيرتان: الأولى هي الشريحة البيضاء مثل المهاجرين أو اللاجئين من أوكرانيا، والشريحة الداكنة وخصوصاً المسلمة. يرى فاراج علناً أن المسلمين يشكّلون “غزواً” لبريطانيا، مثل غزو البرابرة أوروبا في القرون الوسطى!
إذا أضفنا إلى كل ما تقدّم موجة اليمين المتنامية في عدد من الدول الأوروبية، وحتى ألمانيا التي كانت منذ سنوات قليلة ترحّب بالمهاجرين ورفعت جدار العزلة، فنحن أمام ظاهرة، ليست رفضاً للمهاجرين فحسب، ولكن ظاهرة مركّبة، منها الرفض للهجرة، ومنها لوم الآخر على التراجع الاقتصادي الحاصل، ومنها التوجّه إلى العزلة الذي قد يسبّب خروج بعض دول أوروبا من التجمع الأوروبي، إلّا أنها بمجموعها تأخذ الجمهور إلى مكان آخر، غير الأسباب الحقيقية للتراجع!!
أسباب تراجع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا هي في مكان آخر، منها الحرب في أوكرانيا وحرمان أوروبا من موارد روسية كالغاز والنفط رخيصة نسبياً، والحروب الأصغر حول العالم كحرب غزة وتداعياتها، ومنها السياسات قصيرة النظر التي تمّ اتخاذها في السنوات الأخيرة التي جعلت من الشعوب الأوروبية تعيش على منتجات رخيصة من الصين، والتي سبّبت الكثير من الخلل في هيكلة الاقتصاد الإنتاجي الأوروبي، بعد اعتماد طويل على موارد المجتمعات التي استعمرت فترة طويلة.
ما يعني العرب من هذا التوجّه هو الالتفات إلى الأوضاع الاقتصادية، والعمل الجاد على خلق الثروة المحلية والإقليمية من أجل تخفيف حدّة الفقر. وأول خطواتها العمل على حل النزاعات، وطلاق الأيديولوجيات، والتي هي الدافع الأساسي لهجرة كثيرين في دفعات إلى الخارج، ووجهتهم في الغالب أوروبا، وهو دليل على فشل الدولة الوطنية التي نرى مظاهره في كل مكان حولنا. وثاني الخطوات الأخرى متلازمة كمثل الاستثمار في رأس المال البشري، وخاصة تجويد التعليم الذي تدهور في الكثير من الدول العربية، والانتقال من الصراخ الأيديولوجي إلى التنمية الاقتصادية.
على المستوى العالمي، يمكن للمتابع أن يفترض بحذر أن العالم، بسبب الأزمات الاقتصادية، وخاصة في أوروبا، يتوجّه إلى توسيع الحروب، حيث يرى بعض المنظّرين أنها المخرج من الأزمات، حيث تشغل ماكينة الصناعة الحربية. فلن تكون الحرب العالمية الثانية هي آخر الحروب الكونية.
* نقلا عن “النهار”