“من، بحقّ الجحيم، يظن هذا الشخص نفسه؟ من هي، بحقّ الجحيم، القوة العظمى هنا (أميركا أم إسرائيل)؟” كانت هذه عبارة نقلت عن الرئيس الأميركي الأسبق، الديمقراطي، بيل كلينتون، عام 1996، (كلمته المستخدمة كانت بذيئة)، بعد أن التقى أول مرة، رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتخب حديثاً، حينها، بنيامين نتنياهو، والذي بادر إلى إلقاء محاضرة على مسامع كلينتون عن كيف ينبغي التعامل مع العرب، بعد أن طلب منه الأخير مرونةً في المفاوضات مع الفلسطينيين. جرت إطاحة نتنياهو من موقعه رئيساً للوزراء، عام 1999، بدعم ضمني من كلينتون، لكن نتنياهو كان نجح في كبح (وتعطيل) طموح الرئيس الأميركي لتحقيق إرث رئاسي في السياسة الخارجية عبر إنجاز “سلام دائم وشامل” في الشرق الأوسط. قبل ذلك، ببضع سنوات، كان جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، تحت الرئيس جورج بوش الأب، يتميّز غضباً، كما جاء في تقرير لمجلة إيكونوميست البريطانية (مارس / آذار 2024)، بعد أن قرأ تصريحات منسوبة لنتنياهو، وكان الأخير حينها نائباً لوزير الخارجية الإسرائيلي، إن الولايات المتحدة “تبني سياساتها على التشويه والأكاذيب”. وحسب مساعد بيكر، حينها، دانييل كورتزر، كان الوزير يريد طرد السفير الإسرائيلي من واشنطن، إلا أنه أقنعه بالعدول عن الأمر. وعوضاً عن ذلك، قرّر بيكر أن نتنياهو غير مرحّب به في وزارة الخارجية الأميركية. أما الرئيس الديمقراطي الأسبق، باراك أوباما، والذي بلغ في عهده التعاون الاستخباراتي والأمني بين واشنطن وتل أبيب أوجه، وختم رئاسته أواخر عام 2016، برفع قيمة المساعدات العسكرية الأميركية السنوية لإسرائيل من 3.3 مليارات إلى 3.8 مليارات، فقد كان جزاؤه من نتنياهو أن يسعّر هذا حرباً ضده في الدولة العبرية، بزعم أنه كاره لإسرائيل، وأن يصطفّ مع منافسه الجمهوري في الانتخابات الرئاسية عام 2012، ميت رومني، وبعد ذلك مع الجمهوريين في معارضتهم الاتفاق النووي الذي أبرمه مع إيران، عام 2015، حين جاء وخاطب الكونغرس بدعوة من رئيسه الجمهوري، حينئذ، جون بينر، من دون التنسيق مع البيت الأبيض. حتى الرئيس السابق، الجمهوري، دونالد ترامب، والذي قدّم لإسرائيل ما لم يقدّمه رئيس أميركي حتى ذلك الوقت، من اعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية، ونقل السفارة الأميركية إليها، وقبل ذلك الاعتراف بضم إسرائيل هضبة الجولان السورية المحتلة، اعتبر أن نتنياهو طعنه بالظهر لأنه هنّأ خلفه جو بايدن بالرئاسة (2021)، والتي لم يقرّ ترامب بخسارتها.
اليوم، يجد بايدن نفسه في مواجهة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه الذي أعيا، في العقديْن السابقيْن، رئيسين ديمقراطيين من قبله، كلينتون وأوباما. بل إنه، وكما كلينتون، من قبل، لم يتردّد بايدن، في أحاديثه الخاصة، في وصف نتنياهو بأقذع الأوصاف، ليس لأنه يقامر بالحسابات والمصالح والاستراتيجيات الأميركية في الشرق الأوسط والعالم فحسب، بل، ولأنه كذلك لا يتورّع عن المسِّ بحظوظ بايدن الانتخابية، وها هو يقيم تحالفاً ضمنياً مع الجمهوريين ضد الديمقراطيين. يفعل نتنياهو ذلك، رغم أن بايدن قدّم لإسرائيل ما لم يقدّمه لها رئيس أميركي من قبل، بما في ذلك ترامب نفسه. يكفي هنا أن بايدن كان أول رئيس أميركي يزور إسرائيل تضامناً معها وهي في حالة حرب. كما أن إدارته أرسلت حاملتي طائرات، مع مجموعتيهما المقاتلة، فضلاً عن غوّاصة نووية، إلى المنطقة بعد عملية طوفان الأقصى في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بهدف “ردع” خصوم إسرائيل. ولم تألُ إدارة بايدن جهداً في تمكين جرائم الإبادة التي ترتكبها الدولة العبرية في قطاع غزّة، وحمايتها على المسرح العالمي، وتحديداً في مجلس الأمن. ولولا تصدّي الولايات المتحدة مع حلفائها للهجوم الإيراني الانتقامي على إسرائيل بعد قصف مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، في إبريل / نيسان الماضي، لكانت إسرائيل دفعت ثمناً باهظاً. دع عنك هنا عشرات شحنات الأسلحة والذخائر الأميركية، بكل أنواعها، التي زودت واشنطن تل أبيب بها، ولا زالت، وقيمتها مليارات الدولارات، ولولاها لما كان في مقدورها الاستمرار في عدوانها في غزّة.
لم يملأ هذا كله عينَي نتنياهو ولم يرض جشعه، فكان أن اتهم إدارة بايدن، الثلاثاء الماضي، بأنها تحجب أسلحة وذخائر عن كيانه، وهو ما يمنعه من “إكمال مهمّته” في قطاع غزّة! المفارقة المهينة أن اتهام نتنياهو هذا جاء بعد يوم من ضغوط ناجحة مارستها إدارة بايدن على رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، السناتور الديمقراطي، بن كاردن، وأرفع مسؤول ديمقراطي في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، غريغوري ميك، لسحب تحفظاتهما على القانون الذي جرى إقراره، الشهر الماضي (مايو/ أيار)، ويقضي بتزويد إسرائيل بأسلحة وذخائر بقيمة 18 مليار دولار، بما في ذلك المزيد من طائرات أف – 15، وإف – 35! الأكثر إهانة لإدارة بايدن أنها لم تجد بدّاً للدفاع عن نفسها (نتساءل كما تساءل كلينتون: من هي القوة العظمى هنا؟) إلا التذكير بشحنات الأسلحة والذخائر التي لا تزال تزوّد بها إسرائيل، فضلاً عن إقرار قانون المساعدات العسكرية الإضافية لإسرائيل بـ18 مليار دولار، والتذرّع بأنه من أصل عشرات شحنات الأسلحة الأميركية لم تعلّق إدارة بايدن إلا واحدة من القنابل الثقيلة، لمراجعة كيفية استخدام إسرائيل لها في المناطق المكتظّة سكانياً في قطاع غزّة. ليس هذا فحسب، إذ جاء اتهام نتنياهو الصلف في وقتٍ تتقمّص فيه إدارة بايدن دور ناطق رسمي عن حكومته محمّلة حركة حماس المسؤولية عن تعطيل مقترح وقف إطلاق النار الذي لم توافق عليه تل أبيب بتاتاً بشكل علني.
تمثلت المهزلة في طبيعة “الردّ الانتقامي” الأميركي: إلغاء (وحسب مسؤول أميركي آخر تأجيل) لقاء أميركي – إسرائيلي تشاوري بشأن البرنامج النووي الإيراني جرّاء عدم إظهار نتنياهو “الامتنان” الكافي، (بمعنى أنه ناكر للجميل)، للدعم السخي الذي تقدمه إدارة بايدن لحكومته وكيانه! أمّا ما هو أكثر سماجة، فأن “الغنجَ” الأميركي لن يؤثّر على اللقاء المفترض أن يكون جمع يوم أمس الخميس، بين مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، مع نظيره الإسرائيلي، تساحي هنغبي، ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، دون ديرمر. وتتضاعف المهزلة إذا علمنا أن وفداً من النواب الأميركيين، ديمقراطيين وجمهوريين، اجتمع بنتنياهو لتأكيد الدعم المطلق لإسرائيل في اليوم الذي أهان فيه إدارة بايدن وشكا عدم “كفاية” الدعم الأميركي! ورغم ذلك كله، لا يزال نتنياهو مدعواً من قيادتي الحزبين الجمهوري والديمقراطي في مجلسي النواب والشيوخ، لإلقاء كلمة أمام الكونغرس، الشهر المقبل، والتي يعلم الديمقراطيون أن نتنياهو سيستغلها ضمنياً لدعم أجندة الجمهوريين الذين يناكفون بايدن ويسعون إلى إطاحته في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
في عام 2001 وخلال حديث بالعبرية جرى تسجيله من دون أن يعرف، قال نتنياهو: “أعرف ما هي أميركا. أميركا شيء يمكنك تحريكه بسهولة شديدة”. مرّة تلو الأخرى، أثبت نتنياهو أنه مصيب، في حين لم ينل المسؤولون الأميركيون، بمن فيهم الرؤساء، الذين تعاملوا معه إلا الإهانات، وهم يبدون كمن أنبتوا جلداً سميكاً يمكنهم من تحملها!