حتى هذه اللحظة، لا أحد يعرف مصير قطاع غزة، الذي تحول لكتل من الركام، سقطت على من كان يعيش داخل البنايات، فمنهم من استشهد تحت الأنقاض، ومن نجا استشهد أيضًا في غارات وقصف جيش الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، وفر الناجون إلى مناطق متفرقة، هربًا من الموت، تحاصرهم القذائف والجوع في آن واحد.
وليست هذه هي المرة الأولى التي يعرض فيها قطاع غزة للقصف، ولكنها هي المرة الأشد والأعنف، منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي، فعقب هجوم «حماس» على المستوطنين في 7 أكتوبر، دفع قرابة 35 ألف فلسطيني حياته ثمنًا لهذا الهجوم غير المدروس، بالإضافة إلى إصابة قرابة 80 ألف آخرين، وفقد أكثر من مليون فلسطيني منازلهم، وتعرض ما يقرب من 90% من المرافق الصحية للأضرار أو للتدمير، ودُمرت المدارس أو تحولت إلى ملاجئ للنازحين.
وتصر حركة «حماس» على مواصلة المقاومة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، ولم تفلح حتى الآن المفاوضات التي جرت في القاهرة، بواسطة مصر وقطر، في وقف العدوان على القطاع، دون أن تنظر «حماس» إلى حجم الخسائر البشرية والمادية، التي لحقت بالقطاع، وهو الوسيلة التي تستخدمها حكومة نتنياهو، للضغط على حركة المقاومة لكي تستسلم وتعيد الرهائن المحتجزين.
المشهد أصبح في غاية التعقيد، ومستقبل غزة في مهب الريح، ووفقًا للتقديرات الدولية، الحياة الاقتصادية في غزة تدمرت بشكل شبه كامل، وفُقدت أكثر من 200 ألف وظيفة في غزة، 90% من الوظائف في القطاع الخاص، و15% من الوظائف في القطاع العام، فضلا عن خسارة وظائف جميع العمال من غزة الذين كانوا يعملون في الاقتصاد الإسرائيلي.
وبلغ حجم خسائر الدخل إلى 4.1 مليون دولار يوميًا، وهو ما يعادل انخفاضًا بنسبة 80% في الناتج المحلي الإجمالي للقطاع. وأكثر القطاعات تأثرًا بفقدان الوظائف في غزة هو قطاع البناء، حيث سجل التراجع الأكبر بنسبة حوالي 96%، يليه قطاع الزراعة بنسبة حوالي 93%، والقطاع الصناعي بنسبة 92%، وقطاع الخدمات بحوالي 77%.
وتشير التقديرات إلى أن 25% من الأشخاص الذين استشهدوا في غزة كانوا من الرجال في سن العمل، وما يعني فقدان هؤلاء المعيلين أن الأسر ستواجه الكثير من الصعوبات الاقتصادية بعد انتهاء الحرب، وتصبح مشكلة انتشار ظاهرة عمل الأطفال مقلقة لأن هؤلاء الأطفال بدلا من أن يدرسوا، سيدخلون إلى سوق العمل، وبعد الحرب مباشرة، ستكون بعض برامج التوظيف الطارئة حاسمة لتوفير الدخل للعمال الذين فقدوا وظائف هم، ومساعدتهم على إعالة أنفسهم وعائلاتهم.
ومن المتوقع أن تحتاج المؤسسات الصغيرة ومتناهية الصغر إلى منح طارئة ودعم للأجور كجزء من عملية استعادة النشاط، وتسهيل التعافي الاقتصادي المحلي. وستكون هناك حاجة أيضا إلى تنمية واسعة النطاق للمهارات والتدريب المهني، لذلك يتعين على جميع الجهات أن تعمل معًا من أجل وضع استراتيجيات اقتصادية تهدف ليس فقط إلى دعم النمو الاقتصادي في فلسطين، وإنما أيضا إلى خلق وظائف توفر أجورًا لائقة للعمال في بيئة عمل لائقة.
ويحتاج سكان غزة إلى المساعدات الإنسانية لسنوات عديدة قادمة، والكثيرين في شمال غزة يواجهون حالة خطيرة من سوء التغذية والمجاعة، وإعادة الإعمار ستتطلب مجهودًا خارقًا ومبالغ طائلة، تبدأ من عودة القدرة البشرية القادرة على إعادة القطاع الزراعي، وإمداد هذه القدرة بالمدخلات الضرورية، فضلا عن وجود حاجة كبيرة إلى تأهيل ما تم تدميره وفقدانه من البنية التحتية التي تخدم قطاع الزراعة بشكل مباشر.
ومن السابق لأوانه تحديد تكلفة إعادة بناء غزة مع استمرار الدمار، ومع ذلك، فإن الأمر سيستغرق عقودًا من الزمن، وإرادة من قِبل المجتمع الدولي لتمويل عشرات المليارات من الدولارات من الاستثمارات لإعادة إعمار غزة، وقدر البنك الدولي الرقم المطلوب بنحو 40 مليار دولار، لكن هذا لا يمثل سوى الأضرار حتى نهاية يناير 2024. وسيكون قطاع الإسكان هو الأكثر كلفة في عملية إعادة البناء بنسبة 72% من التكاليف الإجمالية، تليه البنية التحتية للخدمات العامة مثل المياه والصحة والتعليم بنسبة 19%.
وبالطبع هذا الرقم لا يشمل تكاليف إبقاء الناس على قيد الحياة من خلال المساعدات الإنسانية على مدى السنوات القليلة المقبلة. وسيتعين أيضا إزالة القنابل القاتلة غير المنفجرة في جميع أنحاء غزة، الأمر الذي سيستغرق سنوات، وفقًا لدائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة الألغام، وليس من الواضح على الفور ما إذا كانت الأموال اللازمة لإعادة الإعمار ستأتي قريبًا، وهناك بعض التساؤلات الكثيرة الأخرى بهذا الشأن.
وإذا بدأت عملية إعادة الإعمار فور انتهاء الأعمال العدائية، وإذا انتهى الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة منذ 18 عامًا، ومع نمو مستمر بمقدار 10%، سيستغرق القطاع حتى عام 2035 للعودة للمستويات التي كان عليها في 2006 أي قبل الحصار الاسرائيلي للقطاع، والعودة إلى الوضع القائم قبل أكتوبر من عام 2023، يجب ألا يكون خيارًا مطروحًا على الطاولة، حيث كان معدل النمو السنوي للاقتصاد في قطاع غزة خلال الستة عشر عامًا الماضية 0.4% فقط.
دائرة الدمار وإعادة الإعمار غير الكافية ليست خيارًا لسكان غزة، ولكن حجم الكارثة بحاجة إلى استعادة الأمل لدى الناس في المستقبل، وذلك لن يأتي إلا عبر خطة سياسية شاملة تتضمن حل الدولتين.
وتعد غزة من المناطق ذات الكثافة السكانية الكبرى في العالم، حيث كان 2.3 مليون شخص يعيشون في القطاع البالغ مساحته 365 كيلومترًا مربّعًا قبل الحرب، وأسرع معدلات الدمار كانت في أول شهرين إلى ثلاثة من القصف، وهاجم جيش الاحتلال الإسرائيلي مستشفيات غزة بشكل متكرر خلال الحرب؛ إذ تتهم إسرائيل «حماس» باستخدامها لأغراض عسكرية، وهي تهمة تنفيها الحركة.
وأحصت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسيف» 408 مدارس لحقت بها الأضرار؛ أي ما يعادل 72.5 في المائة على الأقل من هذه المنشآت التعليمية التي تفيد بياناتها بأن عددها 563. ومن بين هذه المنشآت، دُمرت مباني 53 مدرسة بالكامل، وتضرر 274 مبنى آخر جراء النيران المباشرة، وستحتاج ثلثي المدارس إلى عمليات إعادة إعمار كاملة أو رئيسية لتعود إلى الخدمة.
حجم الدمار الهائل الذي وقع في غزة، حملته دول عدة لحركة حماس، التي نفذت هجومها في 7 أكتوبر، دون دراسة العواقب والتداعيات التي ستحدث، ومن الطبيعي أن تتصدى المقاومة لجرائم الاحتلال التي امتدت لسنوات، ولكن كان ينبغي على قيادات حماس، التفكير أكثر من ذلك قبل الهجوم، ورغم ما حدث من دمار أدى إلى سقوط آلاف الشهداء والجرحى، إلا أن «حماس» لديها ثقة غريبة بأنها على الطريق الصحيح، والأبرياء في غزة هم من يدفعون الثمن.
ومن قراءة المشهد، تشعر وكأن إسرائيل كانت تنتظر هجوم 7 أكتوبر، حتى تنهي القضية الفلسطينية، بتدمير قطاع غزة بالكامل، وإنهاء حكم حماس، وظهر ذلك عندما حاولت إسرائيل تنفيذ مخطط تهجير سكان غزة لسيناء، وهو الأمر الذي لقى دعمًا من الولايات المتحدة، ولكن بطريقة غير مباشرة، وتصدت مصر بقوة للمخطط الصهيوني، من خلال بيانات رسمية ولقاءات على المستويين العربي والدولي، أكدت من خلالها رفضها القاطع لمخطط التهجير، وشددت على ضرورة إيجاد حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، عن طريق حل الدولتين.
ما فعلته حماس، دفع إسرائيل إلى توسيع رقعة الاستيطان، وإيجاد بديل لحكم الحركة في غزة، ولا تتناسب المكاسب التي حققتها حماس مع حجم الدمار الذي لحق بالقطاع، لذلك قد يرى الغرب أنه حال انتهاء الحرب، يعود حكم غزة إلى السلطة الفلسطينية، للتعامل معها كجهة رسمية، ومن الممكن أن تصصح حماس مسارها، بالعودة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، ولكن لا يبدو ذلك واضحًا، وسط الإصرار على الاستمرار في الحرب، لتحقيق مكتسبات للحركة ذاتها، خاصة وأن قادتها يعلمون جيدًا أن الهزيمة في الحرب الحالية، معناه نهاية «حماس» بلا عودة.