نالت الحرب العدوانية على غزة ضخاً إعلامياً لم نشهد له مثيلاً في كافة الحروب والأزمات السياسية السابقة، وأغلبه كان بيع أوهام، وتفكيراً بالتمني، وتسويقاً لأجندات سياسية للدول الراعية للعدوان.
نتيجة الضخ الإعلامي والتحريض الأيديولوجي ترسخ في أذهاننا أن السلطة الوطنية مشروع إسرائيلي محض، وهي وكيلة الاحتلال، وحامية مصالحه، ومتساوقة مع سياساته، وهي عبء على الحركة الوطنية الفلسطينية.. إلخ.. فإذا كانت كذلك، لماذا ترفض إسرائيل بشدة وبإصرار أن تعود السلطة إلى غزة، بأي شكل، وكل السيناريوهات التي لديها حول «اليوم التالي للحرب» لا وجود للسلطة فيها!
وفوق ذلك تستهدف السلطة إعلامياً وسياسياً، وتحرض عليها، وتفرض عليها حصاراً مالياً خانقاً وتدفع بها نحو الانهيار! ولماذا تتخذ الإدارة الأميركية الموقف ذاته وحرفياً إزاء السلطة «العميلة»!
وفي المقابل، تم اختزال القضية الفلسطينية في غزة، واختزال غزة في حماس، والادعاء أن حماس وحدها من يمثل المقاومة، وبالتالي هي من يمثل الشعب.. ولإكساب كل ذلك مصداقية تم الترويج بأن إسرائيل كانت تعد خطة لضرب حماس وسحق قطاع غزة وتدميره قبل هجمات السابع من أكتوبر، وأنها كانت ستفعل ذلك في جميع الأحوال، وكل ما في الأمر أن حماس اتخذت الخطوة الاستباقية، وكل ما حصل تالياً من قتل وتدمير كان معَد مسبقاً.
وفي الحقيقة كانت إسرائيل مرتاحة ومتكيفة مع قواعد الاشتباك التي تحددت بينها وبين حماس على مدى 16 سنة سبقت العدوان الأخير، بل كانت تشجع تدفق الأموال القطرية إلى حماس، وبدأت تقدم بعض «التسهيلات» لتحسين الأوضاع المعيشية في القطاع.. وطبعاً هذا غير مقبول في ظل استمرار الحصار.. والحقيقة أيضاً أن الوضع السابق كان يخدم توجهات إسرائيل بالإبقاء على الانقسام، وترسيخه، لأن إنهاء الانقسام يعني توحيد التمثيل الفلسطيني، ويعني أن على إسرائيل دفع استحقاقات العملية السياسية، والقبول بدولة فلسطينية.
ونتيجة للضخ الإعلامي والترويج الحزبي (لصالح حماس) تم تضخيم قدرات المقاومة والمبالغة في تصوير قوتها، ليس فقط من خلال «ما خفي أعظم»، والبرامج والتقارير التي تظهر «مصانع» تصليح السلاح، ومخازن الصواريخ، والحديث عن سلاح للجو، وآخر للمدفعية، وضفادع بشرية، وغواصات، وطائرات مسيرة، وصواريخ بعيدة المدى بعشرات الأسماء، وتكنولوجيا سيبرانية متطورة، وخمسين ألف مقاتل، وغرف قيادة وتحكم، والادعاء بوجود مفاجآت غير متوقعة.. وأن جيش الاحتلال لا يمكن أن يجرؤ على اجتياح غزة، وإذا دخل فيمكنه ذلك فقط من المناطق الرخوة، وإذا تعمق ستكون غزة مقبرة للغزاة، وإذا استحكم سيغرق في رمال غزة.. ثم تبين أن المقاومة مع كل تقديرنا وحبنا لها لم تتمكن من صد هجوم، ولا منع اجتياح، ولا حماية المدنيين، ولم تمنع عمليات النزوح، ولم تستطع الاستحكام في منطقة لنقول إنها آمنة، ولا يستطيع جيش الاحتلال وصولها، أو تجبر الجيش على الانسحاب من منطقة ما.. كل ما ظهر عبارة عن بطولات فردية شجاعة ننحني لها احتراماً، لكنها لن تؤثر على سير المعركة، وكل الخسائر التي تكبدها الاحتلال ضمن قدرته على احتوائها وتحملها، بل ربما أنه كان يتوقع أكثر من ذلك.
وكذلك تم تضخيم قدرات الغزيين، وأسطرتهم، وتصويرهم على أنهم جبابرة، ويتمنون الشهادة.. طبعاً لأن هذا الطرح مريح، ويعفي الآخرين من المسؤولية ويريح ضمائرهم المثقلة بالشعور بالعجز، وينقل الحمل إلى كاهل الغزيين وحدهم، ولم لا، فهم جبابرة وأبطال!
وتم الترويج بأن إسرائيل لا تتحمل حرباً طويلة، وأنها ستنهار اقتصادياً، وأن صراعاتها الداخلية ستقضي عليها.. ثم تبين أن هذه قراءة أيديولوجية ذات دوافع سياسية، ولا تعكس الحقيقة.
وظهر ضخ إعلامي أيضاً في موضوع تأييد شعوب العالم لقضية فلسطين، وما من شك أن معظم شعوب العالم مع الحق الفلسطيني، وضد الاحتلال، وضد العدوان، ومتعاطفة مع غزة.. وأن الرواية الفلسطينية اخترقت العالم، ودحضت الرواية الصهيونية، وزاد وعي الشعوب بحقيقة القضية الفلسطينية.. إلخ ولكنّ هنالك جانباً آخر من المشهد تتجاهله وسائل الإعلام، لأنه يخدش الصورة المثالية، يتمثل في وجود دعاية صهيونية قوية ومضادة، وما زالت مؤثرة، وقد كشفت الانتخابات التي جرت في أوروبا وعدد من دول أميركا اللاتينية، وآسيا، وستجري في الولايات المتحدة حقيقة صادمة، فقد فازت قوى اليمين المتطرف بأغلبية كبيرة في أغلب تلك الانتخابات، وهذا اليمين معادٍ لكل قضايا العرب والعالم الثالث، ومنه من يؤيد إسرائيل بشكل أعمى.
وفي موضوع الصفقة وإنهاء الحرب، يجري تسويق مصطلح وقف إطلاق النار، والتضليل الممارَس هنا أن هذا المصطلح يستخدم عادة عندما يكون طرفا الحرب يقومان فعلاً بتبادل إطلاق النيران، ولدى كل طرف قوة عسكرية تؤثر على الآخر، والحقيقة أن ما يجري في غزة هو عدوان من طرف واحد، طرف يمتلك ويحتكر القوة العسكرية، ويستخدمها بشكل مفرط وإجرامي وجنوني، فيما الطرف الآخر ليس لديه سوى ضربات فردية (يجري تضخيمها على قناة الجزيرة)، وعنصر القوة الوحيد الذي تملكه المقاومة هو الأسرى أو الرهائن المحتجزون لديها.. وعندما تجري المفاوضات بين طرفين فإن من يحدد الشروط والنتائج هو الطرف الأقوى، وبحسب أوراق الضغط التي يمتلكها، وفي مفاوضات التهدئة التي تجري منذ عدة أشهر يتم الإيحاء بأن حماس طرف مفاوض، وتستطيع فرض شروطها.. بينما الاحتلال يفرض كل يوم حقائق جديدة على الأرض وبالقوة الغاشمة، ويماطل ويشتري الوقت إلى حين الانتهاء من تحقيق أهدافه «الحقيقية».
والتضليل الذي تمارسه حكومة الاحتلال أنها تشن الحرب من أجل استرداد الرهائن! فلو كانت حقاً معنية باسترداد الرهائن سالمين وأحياء وخلال أسبوع واحد كل ما عليها هو تنفيذ صفقة تبادل عادلة، وهذا ما قالته حماس منذ اليوم الأول للعدوان! لكن إسرائيل تكذب وتستخدم مواطنيها «المحتجزين» دروعاً بشرية لتنفيذ مخططها الإجرامي.
والوهم الأخير (في هذا المقال) روجته إسرائيل (وأميركا) بزعمها أن امتلاكها للتفوق التكنولوجي والسيبراني كفيل بحسم أي حرب، وقد استخدمت ذلك لتخويف خصومها وأعدائها وردعهم، وهذا الادعاء سقط يوم 7 أكتوبر، وتكشف أنه ينطوي على قدر كبير من المبالغة خاصة مع ضربات حزب الله النوعية والدقيقة، ومع الرد الإيراني (في نيسان الماضي)، رغم ما قيل عنه إنه ضعيف، لكن إسرائيل تعرف الحقيقة، وعلى العرب والفلسطينيين معرفتها أيضاً، والتوقف عن المتاجرة بالأوهام والمبالغات والشعارات الرنانة.. فهذا هو الشرط الأول للنصر.
إذا ما استمررنا بشراء تلك الأوهام، سنصحو على صدمات من العيار الثقيل، ولكن بعد فوات الأوان.