تهلّل وجهه وهو يراها ، طلب من سائق الحافلة التوقف !!
صعدت إلى الحافلة .. شابة يبدو مما تحمله في يدها أنها طالبة في كلية الطب ، أخذ ينظر إليها بشرود ، أنّبه السائق وصرخ :
دافنشي .. شوف شغلك !!
إستغرب أحد الركاب : إسمك دافنشي ؟؟
قهقه الشاب وحك شعره الكثيف وأجاب :
– أحد الركاب سمّاني هذا الاسم لانه عرف أني أهوى الرسم .
سأله آخر :
– هل تعرف من هو دافنشي ؟
أجاب :
لا أعرف عنه شيئاً سوى أنه رسام .
توقفت الحافلة ، نزلت تلك الشابة ، تتبعها دافنشي بنظراته ، حتى غابت ..
وصعدت من صدره زفرات حرى !
مرت الساعات .. تطايرت أحزان الغسق في ارتعاش الصبح وعرشت في أيك وجدانه .
هاهو يراها مجدداً ، لكنها بعيدة جداً !!
كلما قست الليالي بقيظها يتدثر بحضورٍ مكلل بأنفاسَ أهدابها ، يرتمي على فراشه الرثّ تعباً مجهداً ، وعلى ضوء شمعة هزيلة يتأمل كنزه الثمين !!
بعض أوراق تحمل رسوماته .. إنه شاب يافع ، لكن من يتأمل ملامحه الشاحبة يرى فيها عمرا ًآخر من الحرمان وانكسار الآمال !!
في الصباح كان منهمكاً بإلصاق إحدى رسوماته في واجهة الحافلة ، نَهَرَه سائقها ، إذ أنه انشغل عن المناداة للركاب ،
فعاد ينادي كعادته :
الدايري .. الجامعة !!
– سأله أحدهم :
هل أنت من رسمها ؟
– أجاب بِزهوٍ :
نعم
هل درست ؟
– أجاب بلا مبالاة للصف السادس فقط ، وتركت الدراسة لأعول أسرتي فليس لهم عائلٌ غيري !!
نظر إليه بحسرة ثم قال :
– كم أنت موهوب ، لكن ياللاسف حظك عاثر مثل هذا الوطن !!
وأمام لوحاته يتكرر نفس السؤال .. ونفس الجواب ، لكن هيئته الرثة لاتشجع السائل على التصديق .. !!
أحيانا كان يتشاجر مع السائق الذي لم يكن يتجاوز عن الركاب الذين لايستطيعون دفع ثمن المشوار كاملا ..
– حان موعد صعود الشابة طالبة الطب ، كم تمنى أن ترى لوحته تلك .. !!
لكنها لم تنتبه لها ، الركاب يتزاحمون ، وحدها أمامه لايرى سواها ..
طيفها يمسك بيد أيامه الحزينة ليغسلها بلون الصباح ويغمرها بأريج كل الورود .
بدت عليه أمارات التعب والإجهاد ، ففي مواجيده حلم قصي ، يشيّده كل مساء بلبِنات وهمٍ لذيذ !!
ذات مساء .. رسم عينييها في لوحة صغيرة ، لفّها بشغف ودسها في جيبه ..
– عندما رآها في اليوم التالي تمنى أن ترى مارسمه !!
إرتجفت يده وهو ممسك باللوحة الصغيرة .. غادرت هي الحافلة ، دون أن تحس بكل ذلك الكمد الذي يرغي في صدره ، ولم تشعر أن أكف الريح التي لاحقتها كانت تحمل أناته الواهنة .
كلما سكن إلى نفسه ، يُهدهدُه طيفها فتسبح روحه في أثير هواها ، ولعينيها انبلاج في ضحى قلبه المتيم .
إحدى المرات وهي تستعد للنزول من الحافلة ، أخذت تبحث عن النقود في حقيبتها ، فقال لها :
– لو ما فيش خليها للمرة القادمة يا دكتورة !!
وجدت النقود ، إبتسمت له شاكرة .. وَثَبَ قلبُه ، وخطف تلك البسمة الجميلة ، لفّها بعناية في دالية ندية ، وخبّأها لحين قدوم المساء ، فكانت قمراً في أفق حلمه الأخضر
– في لوحة أخرى رسم بَسمتَها وقلبُه يضحك في شفتيها ..
لم تعد طالبة الطب تاتي في موعدها ، غابت كثيراً !!
تمر الحافلة حيث اعتاد أن يراها ، بَصَرُ دافنشي يغادر المآقي ، يقتاده فيض الشوق ليستوطن ذلك الرصيف ، الذي لطالما وقفت عليه خطاها بانتظار الحافلة !!
أيامُ طويلة مضت ، كم أوجعته ألوانه ، وهو يرسم عينيها الغائبتين .. !!
وأبكَته أشواقُه ، منفياً في ذبولِ حلمِه ، مسجوناً في عنق هواجسه.
لكن وجعَه صامت كصبّار في مهب الريح !!
ذات صباح رآها في طريق آخر !!
– لم تكن وحدها .. كانت برفقة رجل يلمع في إحدى أصابعها خاتم براق ، عبثت الأحزان بأنفاسه، فترنحت وضلت طريقَ رئتيه فكاد يختنق !!
لاحت أمسياته الكاذبة التي أوهمته وأوصلت خطاه لحدود النجوم
لكنه الآن يفزع حتى من صمته، يلبسُه خوفُه يبيت في خيط دخان
تساقطت النجوم في أفول رمادي ، لم يكن يعلم أن لحلمه احتضار .. وأن للوهم ضريح يواريه.
– مازالت ابتسامتها ” الضاحك فيها قلبه ” لوحةً في خياله ، لكن عينيه الآن .. صارتا تبكيان في شفتيها ، وسكون بارد يتثاءب في صدره ، فينكفيء على نحيب قلبه الواجف.. !!
– الموناليزا : بعيدة .. بعيدة يادافنشي !!
جَلجَل بضحكة باكية ، وفاض ندى ساخن من عينيه .
…………………………………
…………………………………
ترى من يستطيع رسم لوحة أساك أيها المواطن دافنشي ؟!
…………………………………………………