حلم الشاب اليميني جوردان بارديلا، حصان زعيمة اليمين الفرنسي مارين لوبان الأسود للفوز بالسباق الانتخابي، وتبوأ مركز رئاسة الحكومة تهاوي، وتحطم على صخرة صحوة الفرنسيين من جبهة اليسار والوسط، الذين شمروا عن سواعدهم ودقوا جرس الإنذار أمام الشعب الفرنسي مع تقدم اليمين الفرنسي في الجولة الأولى، التي حدثت قبل اسبوع في 30 يونيو الفارط، وحصل فيها على ما نسبته 33% من أصوات المقترعين، وجاءت الجبهة الشعبية الجديدة ثانيا بنحو 28% واخير “تكتل معا” وكان في ذيل القائمة بنسبة 20%. وانعكست نتائج الانتفاضة الانتخابية بقلب الطاولة على رأس اليمين الفرنسي المتطرف بعد ظهور النتائج الأولية وغير الرسمية حتى كتابة هذه السطور، حيث تقدم فيها اليسار الصفوف بحصوله على 190 مقعدا، وحل ثانيا تكتل الرئيس ماكرون “معا” بحصد 165 مقعدا، وتراجع اليمين الى المركز الثالث ب135 مقعدا، في حين حصل الجمهوريين على 65 مقعدا، والقوى الصغيرة حصدت 22 مقعدا.
انقلب سحر وغرور وغطرسة اليمين المتطرف على السحرة اليمينيين، حيث بدا بارديلا كالطاووس مع زعيمته لوبان في الساحات امام مناصريهم يتفاخرون ويشترطون معاييرهم لتشكيل الحكومة، وافترضوا ان الساعة أزفت لتولي الحكم في فرنسا من خلال الاعتقاد بإمكانية حصولهم على الأغلبية المطلقة 289 نائبا، او اقل قليلا بحيث يكونوا القوة المؤهلة لتولي رئاسة الحكومة، حتى بدت الفرضيات في محاكاة سيناريوهات ما بعد الانتخابات تقوم على ركيزتين هما تعاون تكتل الرئيس ماكرون مع تكتل زعيمة اليمين لوبان، ولم تخرج السيناريوهات المختلفة عن تحريك حصاني اليمين والوسط صعودا وهبوطا، الى ان جاءت انتفاضة الجولة الثانية وقلبت الأمور راسا على عقب، والأسباب التي أدت الى ذلك، هي: أولا التصريحات التي ادلى بها زعماء ومرشحو اليمين في اعقاب نتائج الجولة الأولى؛ ثانيا الرفض المبدئي من الفرنسيين لسيطرة اليمين على مقاليد الحكم، واخطاره الشوفينية والاقتصادية على مستقبل فرنسا؛ ثالثا استشعار المهاجرين من مختلف الاثنيات الخطر الداهم. لا سيما وان اقطاب اليمين هددوا بارتكاب مجازر تهجير ضدهم وضد ابناءهم، مما دفعهم للمشاركة بقوة في الانتفاضة الانتخابية؛ رابعا كما ان التصويت جاء ردا على نتائج الانتخابات البرلمانية للاتحاد الأوروبي، التي فاز بها اليمين، ولهذا حل ماكرون الجمعية الوطنية، ودعا لانتخابات مبكرة.
ولهذا لجأ قادة تحالف اليسار وتكتل معا للجوء لمطالبة مرشحيهم الأقل حظا بالانسحاب، لإعطاء الفرصة لمن هم أكثر حظا، ولهذا تم التركيز على صب الأصوات للمرشحين المؤهلين للفوز، مما ساهم في محاصرة اليمين، ووضعه في المؤخرة. ومما لا شك فيه، ان تحالف الجبهة الشعبية حقق تقدمه في الانتخابات استنادا لبرنامجه السياسي والاقتصادي والداعم للقضية الفلسطينية، والداعي لوقف حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني، والمنادي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية فورا، والتي تأخر الاعتراف بها 78 عاما منذ إقرار القرار الاممي 181 عام 1947، ومواقفه الرافضة طرد المهاجرين، والمطالب بتخفيض الضرائب، وتخفيض سنوات التقاعد.
ويفترض ان يدعى البرلمان الجديد خلال 15 يوما من الان، ويعتقد بعض المراقبين، ان الجلسة الأولى له ستكون في 18 يوليو الحالي. لكن على ما يبدو ان البرلمان سيكون لأول مرة في تاريخه معلقا، ومكبلا بالنتائج التي افرزتها الانتخابات، حيث لا يوجد تكتلا قادرا على تشكيل الحكومة لوحده، كما في الانتخابات المختلفة السابقة، ولا يوجد لدى أي من الكتل الأغلبية المطلقة، وبالتالي سيذهب الرئيس الفرنسي الى نسج تحالفات مع قوى مختلفة من خلال السعي لشق جبهة اليسار، التي لا يبدو حتى الان، ان ائتلافها مهتزا، ومع ذلك سيحاول مع أنصار البيئة والاشتراكيين بالإضافة للتعاون مع الجمهوريين الذين حلوا رابعا، وهذا الائتلاف القادم، اذا قدر له ان يتشكل، ستضطر اطرافه لتقديم تنازلات متبادلة للوصول لقواسم مشتركة، او سيذهب لتشكيل حكومة تكنوقراط تحت قيادة رئيس حكومة معتدل، وقد يكون هذا الخيار الأقل تكلفة للرئيس ماكرون، وأيضا يعطيه الفرصة لاستعادة أنفاسه، وتعزيز موقع تكتله لاحقا. بيد ان أي كان شكل الحكومة واسم رئيسها سيخضع لتصويت البرلمان، الامر الذي يتطلب ابرام تحالفات لتكريس حكومة الرئيس القادمة.
لكن كما تشير قراءات العديد من المراقبين الفرنسيين، لن يتحالف ماكرون مع حزب فرنسا الابية، ليس لان برنامجيهما متناقضين، وانما خشية من الرئيس والدولة الفرنسية العميقة من صعود وتكريس اليسار المتطرف في دائرة صناعة القرار. لان لذلك تبعات عديدة على مكانة فرنسا في أوساط الغرب الرأسمالي. كما انه لم يعد يفكر بالتحالف مع اليمين المتطرف بقيادة لوبان، التي اختفت ابتسامتها العريضة والفائضة عن الحاجة. وبالنتيجة قادم الأيام سيحمل في طياته انبلاج شمس الائتلاف الحاكم الجديد.
وتملي الضرورة ان ادون واحدة من اهم مخرجات الانتخابات الفرنسية والبريطانية، ان انتصار اليسار الفرنسي، وفوز حزب العمال البريطاني أوقف المد اليميني في القارة العجوز، وخلق حالة من التوازن النسبي بين القوى المختلفة.