السياسي – العدوان المستمر على غزة، والتوسع الاستيطاني الضخم في الضفة، والاقتحام الممنهج للمسجد الأقصى ومحاولات تهويد القدس وبقية الأرض الفلسطينية، جميعها أحداث ووقائع توازي في أهميتها أحداث جريمة النكبة الفلسطينية عام 1948، وستترك آثارا استراتيجية تنعكس على القضية الفلسطينية وعلى المنطقة العربية تتجاوز الحسابات والمصالح الضيقة لمختلف الأطراف العربية والدولية، التي بقيت تنظر لقوانين الصراع القائمة من الزاوية الصهيونية منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
وفي موازاة الغزو الواسع والشامل لقطاع غزة بمنهجية التدمير الشامل، وارتكاب جرائم الحرب والإبادة في محاولة لسحق مقاومة الشعب الفلسطيني والقضاء عليها وخلق عامل سياسي مختلف يتم التعامل معه وفق المصلحة الأمنية والسياسية للاحتلال، يأتي سعير وانفلات هجمة استيطانية وعدوان قطعان المستوطنين وجيش الاحتلال على بقية الأرض الفلسطينية في مدن الضفة والقدس، مع تصاعد لافت للمقاومة هناك.
وللوقوف على أبعاد الوضع الراهن في غزة والضفة المحتلة، يجدر بنا ملاحظة ما خطط له الائتلاف الفاشي في إسرائيل بزعامة كل من نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، ولا تخلو هذه الخطط من مخاطر حقيقية من حيث تأثيرها المباشر على الأرض والشعب الفلسطيني وعلى قضيته عموما. لكن التأثير المباشر على “أمن وطمأنينة” الاحتلال من خلال تصدي المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني لهذه السياسات والجرائم، وصمود المقاومة في غزة، وتصاعدها في الضفة، والخسائر النسبية التي لحقت بجيش الاحتلال ومؤسسته الأمنية منذ عملية “طوفان الأقصى”.. كل ذلك أربك الحسابات والخطط الصهيونية لما أطلقوا عليه “اليوم التالي” لغزة، مع سقوط بنك الأهداف الكبرى الذي حددته المؤسسة الصهيونية لنفسها في غزة؛ بالقضاء على المقاومة واجتثاثها واسترجاع أسرى الاحتلال من قبضة المقاومة دون ثمن.
لكن التركيز هو على الهدف الأساسي بإحداث تدمير شامل للبنية التحتية للمجتمع الفلسطيني في غزة، وجعله غير قابل للحياة، حتى لا يستطيع الفلسطينيون التصرف كعامل سياسي متصل ببقية القضية الفلسطينية، وأن لا يكون للمقاومة رأي وكلمة في حاضر ومستقبل شعبها، وهي أبعاد مكشوفة القصد على الساحة الفلسطينية، مع انكشافات أخرى لسياسة المراوغة المتبعة مع الفلسطينيين والعرب بخصوص “السلام” والتطبيع مع المؤسسة الصهيونية.
هذه الأهداف السياسية، هي ما فشل الاحتلال في تحقيقها بعد تسعة أشهر من العدوان المستمر والواسع، وهو بيت القصيد الذي يجب أن تدركه السلطة الفلسطينية وقياداتها، بعدما أدركته المقاومة الفلسطينية والشارع الفلسطيني، للتعامل مع الواقع المستجد الذي تفرضه سياسات وخطط الاحتلال لهم ولأرضهم، وما ينبغي وعيه عربيا وفلسطينيا.
إن العواقب الوخيمة التي انعكست على المؤسسة الصهيونية وسمعتها السياسية والعسكرية وتصدع سرديتها الزائفة، هي عواقب وخيمة أيضا للرهان العربي والفلسطيني على تلك المؤسسة القائمة على العدوان والبطش والسيطرة والتهويد والتزوير والسطو، والتي تنسف بمجملها عقلية التعاطي السابق بالعجز والاستسلام الكلي للأمر الواقع الصهيوني. وتجاربه العدوانية مع الفلسطينيين والعرب أكسبت الرهان عليه خسائر وفشلا مضاعفا لأمنهم وأرضهم ومصالحهم الوطنية والقومية.
ولا شك أن هذه المحصلة غير النهائية، من ناحية المواجهة العسكرية- البشرية، هي أكبر دليل على فشل الأهداف السياسية والعسكرية التي تحاول فيها دولة الاحتلال بدعم أمريكي وغربي فرضها على المنطقة، من خلال محاولة إلحاق هزيمة مؤلمة بالشعب الفلسطيني بإعادة احتلال غزة وتدميرها، وضم الضفة الغربية بسياسات مصادرة الأرض والاستيطان وإجهاض فكرة تحقيق “دولة فلسطينية” على الأرض، واستبدال كل ذلك بمشاريع سياسية وأمنية تصب في مصلحة المشروع الصهيوني.
ولعله من المستحسن أن نتذكر جيدا ونذكر كل المراهنين على هزيمة الفلسطينيين ومقاومتهم بعد تسعة أشهر من المواجهة والصمود والثبات، ومن تعكر مزاج الصهينة لديهم عربيا من هذا الصمود الأسطوري في غزة، أن الفضل الكبير لكل هذه الارتدادات السياسية والأمنية في المنطقة وفي العالم والتأثير بالرأي العام الدولي، يعود لثبات استراتيجية التصدي والمواجهة والصمود التي اتبعنها المقاومة الفلسطينية.
أخيرا، ظنت المؤسسة الصهيونية بأنها قطفت ثمرة التطبيع العربي معها، وبأن أوسلو مكنها من تثبيت أمر واقع بوجود سلطة فلسطينية تخدم أمنها، وحين مضى الظن الإسرائيلي إلى حد الأمل بإبادة الوجود الفلسطيني في غزة وبقدرته على سحق مقاومة الفلسطينيين لعدوانها بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، قدمت المقاومة الفلسطينية الحقيقة التي أطاحت بكل الظنون الصهيونية والعربية.
فقد اتضح قبل أي شيء آخر، أن أصحاب الأرض والتاريخ والحضارة، قادرون على إيقاع خسائر متكافئة في صفوف الغزاة والمحتلين لأرضهم، وبأن هذه القدرة حق أصيل يمتلكه كل شعب يتعرض لاحتلال، وبأن المساس بحقوقهم وبعماد قضيتهم يمس كل من تعنيه هذه القضية العادلة، وتؤثر على وجود كيانات وأدوار “مأمولة” صهيونيا في المنطقة والعالم. وأيا كانت النتائج التي ستنجلي عنها عملية العدوان على غزة، فإن الطريق الذي عبّده الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه لن يقفل، لظنه خيرا بأمته وبنفسه وبإرادته ومقاومته.