خسارات العرب المتواصلة

حسان الأسود

كثيرة المؤشّرات على انهيار العرب، ليس بوصفهم أمّة كان ثمّة ما يجمع بين أقوامها أو شعوبها فقط، ولو نظريّاً أقله، بل بوصفهم أيضاً مجموعة دولٍ لم يتسنّ لها أن تتشكّل على أسس حديثة كزميلاتها الأوروبية التي نشأت فيها الدولة القومية أول ما انتهت من حروبها الدينية البينية. بدأت مسيرة خروج العرب من التاريخ مع انهيار العصر العباسي الأول في بغداد، واستكملت خطواتها مع انهيار الدولة العربية في الأندلس بسقوط غرناطة. وباستثناء الدولة المغربية، لم يكن ثمّة حكم عربي خالص إلا على شكل جُزرٍ متناثرة في بُعدي الزمان والمكان. كانت الحكومة العربية في سورية التي نشأت مع اندحار العثمانيين مجرّد حلمٍ أيقظت الساهمين فيه مدافعُ الفرنسيين. وكانت دولة عبد العزيز آل سعود آخر الدول التي قامت على العصبيّة القبلية، وهي تُعيد إنتاج ذاتها من خلال تكريس السلطة على عمودِ نسبٍ أضيق مما سبق وخطّه الجدُّ المؤسّس، بينما ورثت مجموعات الدول الأخرى من مصر إلى العراق إلى بقيّة دول المشرق والمغرب مؤسّساتٍ خلّفها الحكم العثماني أو الاحتلالات، الإنكليزي والفرنسي والإيطالي.

يحاجّ بعضهم بألّا خوف على العروبة انطلاقاً من مبدأ وجود ثقافة عربيّة مشتركة تستند إلى بعدي اللغة والدين. يدلّل هؤلاء على وجود سماتٍ غالبة للغةٍ عربيةٍ فصيحةٍ أو رسميةٍ يَكتبُ بها كلُ أهل البلاد المتناثرة من الخليج إلى المحيط، بمن فيهم الأقليّات من غير القومية العربية. يقرأ هذه اللغة الجميع أيضاً، ويفهمون المراد إيصاله من خلالها. عبر اللغة ذاتها، يستمع أهل هذه البلاد المترامية الأطراف للأخبار عبر إذاعاتٍ ناطقةٍ بها، ويشاهدون الأحداث تنقلها قنوات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي. لا يقدَح بنظر أصحاب هذا الرأي وجود لغاتٍ دارجةٍ أو لهجات محليّة، بل يرى هؤلاء أنّ اللهجات الشامية والمصرية والخليجية قد شدّت خواصر العروبة الرخوة، بعد أن حملتها الدراما التلفزيونية والسينمائية والأغاني، أصبح الآن كل سكان هذه البلاد يعرفون بعضهم جيّداً ويميّزون خصائصهم، مع تأكيد وحدة الجذر الثقافي بأصله اللغوي.

ثمّة فئاتٌ في مجتمعات بلداننا منتفعة من الاستبداد، وهي ليست محصورةً ببعض أصحاب رؤوس الأموال أو الفئات المتعيّشة على فُتاتِ موائد السلطة
أمّا الدين، وهو هنا الإسلام، فيلعب، حسب وجهة النظر، هذه أدواراً لا يمكن القفز عنها في توحيد الشعور بالانتماء، وحتى بين أولئك غير المتدينين من المسلمين ذاتهم ثمّة رواسب في النفوس لا يلغيها عدم الإيمان. كل تفاعل مهما كان صغيراً يُحدثهُ في النفس منظرُ قصرٍ أو قلعةٍ من أوابد الشام أو الأندلس أو مصر، أو رؤية مسجدٍ في بغداد أو طشقند أو الرباط، أو صوت عبد الباسط عبد الصمد أو محمد صدّيق المنشاوي من مصر أو صوت أديب الدايخ أو توفيق المنجد أو حمزة شكّور من سورية، أو رقصة المولوية في مراكش أو إسطنبول… هو ارتباطٌ وانتماءٌ وجذورٌ لا يمكن اقتلاعها أبداً. حتى الذين يعرّفون أنفسهم من المسلمين بالتضادّ والتنافر مع الدين الإسلامي لا يجدون ساحة للحضور في أوساطهم إلا من خلال هذا الصرح العظيم. هنا يأخذ الإسلام حيّزاً كبيراً من الحضور، حتى إن كان مصنّفاً بالنسبة لبعضهم في خانة الأعداء أو في خانة أسباب التخلّف. هذا فضلاً عن الذين يعتبرون الإسلام عمود نسب العروبة وناظم عقدها، وعند هؤلاء للأمر معانٍ أعظم وأعمق لدوره في الوجود والبقاء.

يدعم القائلون بوجود الفضاء الثقافي العربي المشترك مذهبهم هذا بأمثلةٍ حاضرة، ليس من التاريخ المعاصر فقط، كتعاطف أهل المنطقة وشعوبها مع حرب التحرير في الجزائر أو نضال الشعب الفلسطيني، أو مع أحلام جمال عبد الناصر ببناء الأمّة الواحدة، بل الراهن المعاش الآن أيضاً، من خلال امتداد ثورات الربيع العربي من تونس إلى مصر فليبيا واليمن وسورية، حتى إنّ البحرين ولبنان والعراق والسودان قد طاولها بعض نور هذه الثورات أو نيرانها. لماذا لم تمتد شرارة الثورات في أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أو ثورة الشباب في ساحة تيان آن من في بكين أو الثورة البرتقالية إلى بلادنا رغم القرب الجغرافي، بينما امتدّت من تونس فألهبت حماسة الشعوب من المحيط إلى الخليج؟ ثمّة خيطٌ رفيعٌ من حريرٍ أو حنينٍ، لا فرق بين الاثنين، ينظُمُ قلوب ملايين البشر في هذه المنطقة بعِقدٍ خفيٍ لا تراه الأبصارُ ولكن البصائر تُدركه.

كان غياب الدولة الوطنية القائمة على مبدأ المواطنة وسيادة القانون والعدالة وحقوق الإنسان سبباً ونتيجة في الوقت نفسه للتفتّت والتذرّر العربيين
لكنّ السؤال المبني على مُقتضاه، لمَ يقف كلُّ هذا الكلام عن الفضاء الثقافي العربي عاجزاً عن فعل شيء لغزّة الآن مثلاً، أو لماذا لا نجد له أثراً في نفوس أصحابه، إن لم نقل الخصوم أو الأعداء الذين يسرحون ويمرحون في بلاد العرب والعروبة؟ ليس الجواب بالسهولة التي يتخيّلها المرء، فعوامل تحييد أثر هذا الفضاء وتشتيته كثيرة لا تُحصى، لكنّ أهمها وجود الموانع الداخلية المبنيّة على الاستبداد السياسي المدعوم من الداخل والخارج. تفتقد أنظمة الحكم في المنطقة بغالبيّتها الشرعية، لذلك تستند في بقائها إلى دعمٍ خارجي يأتي في الغالب من دولٍ لها مصالح في بلداننا، فتتقاطع في لعبة تبادل المنافع لتؤدّي خدمة بقاء الأنظمة رغم إرادة شعوبها، مُشكّلةً عموداً قويّاً يسند هذه الأنظمة. كذلك ثمّة فئاتٌ في مجتمعات بلداننا منتفعة من الاستبداد، وهي ليست محصورةً ببعض أصحاب رؤوس الأموال أو الفئات المتعيّشة على فُتاتِ موائد السلطة، بل تشمل أيضاً أصحاب الحظوة والنفوذ المجتمعي بحكم صفاتهم الدينية، فلدى هؤلاء امتيازاتٌ هائلة وحضورٌ مرعبٌ في عقول عموم الناس لا يمكن التفريط بها أبداً. هنا نجد الأحلاف المقدّسة بين القابضين على السلطة السياسية عبر العسكر والأمن وبين تلك الفئات المختلفة من المجتمعات العربية التي تدافع، في النهاية، عن مصالحها الآنية التي تتعارض في الجوهر مع مصالح عموم الناس الراهنة والمستقبلية.

كان غياب الدولة الوطنية القائمة على مبدأ المواطنة وسيادة القانون والعدالة وحقوق الإنسان سبباً ونتيجة في الوقت نفسه للتفتت والتذرّر العربيين. وقد أفقد هذا الغيابُ مجتمعاتنا القدرة على تشكيل الأمّة الواحدة أو الأمم المتعددة ضمن فضاءٍ عربيٍّ أوسع هو الفضاء الثقافي المحكي عنه أعلاه. حطّم هذا الغيابُ صورة العرب أمام الآخرين من شعوب المنطقة، تبدّى هذا جليّاً في تصرّفات شعوبِ دولٍ مجاورة، ليس مع السوريين فقط، بل ومع كل من هو عربي لمجرّد أنه عربي، بلغته ولباسه وشكله، وقد طاول ذلك بعض الذين يشبهون العرب بالمظهر والسُحنة. ما التفسير أيضاً لاستباحة إيران فضاء نصف دول المنطقة وأراضيها ومجتمعاتها غير هذا الغياب؟ ما التفسير لهذه النظرة الاستعلائية الغربية لكل ما هو قادمٌ من بلادنا وثقافتنا؟ ليس هذا فحسب، بل أفقدنا غياب الدولة العربية بمفهومها آنف الذكر، نحن أهل هذه البلاد، احترامنا ذواتنا وثقتنا بأنفسنا وحضورنا الفردي والجماعي، فأصبحنا مستلبين أمام الآخر أياً كان شأنه.

هي دوّامة مترامية الأطراف لا تبرَح تجدد نفسها مع كل مفصلٍ مهمٍّ من مفاصل حياتنا، وكلّما لاحت أمامنا فرصةٌ للتغيير، تكالبت علينا كل شرور الداخل والخارج لتعيدنا إليها. هل كانت ظاهرة الأفغان العرب ومن ثم “القاعدة” و”داعش” مجرّد نتاج داخلي محض؟ يعرف كل ذي بصيرة كيف تلاقت مصالح شياطين الأرض كلها لوأد هذا المارد قبل ولادته وإعادته إلى القمقم عبر هذه التنظيمات الإرهابية التي لم تنكّل إلا بنا، نحن الذين حاولنا الخروج عن النير والطوق. لم ننجح في بناء الدولة، وفشلنا في شدّ عصب الأمّة، وها نحن نمضي رغم المحاولات المتكرّرة للنهوض من حفرة إلى هوّة، ومن خسارة إلى أفدح منها، فيا لخساراتنا اللامتناهية!

شاهد أيضاً