ثقافة الصمود.. كيف يتحايل أهل غزة على العيش؟

عمار علي حسن

مع بدء الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، صار أهلها أمام تحديَين هائلَين: الأول هو البقاء في المكان، تعبيرًا عن الرفض القاطع للتهجير والشتات، والثاني يتمثّل في ضرورة تحقيق الانتصار الفلسطيني الثاني، لكنه الأوضح والأعمق، على الجيش الذي غزا أرضهم، بعد أن خطفت المقاومة نصرًا في معركة الكرامة عام 1970، بما يجدّد ويعزز آمالهم في التحرير.

هذان تحديان كبيران جدًا في ضوء القوة العسكرية للجيش الإسرائيلي، المفتوح مدده على القوة الغربية الرسمية: عسكرية، وسياسية، واقتصادية، بينما يزداد الحصار على قطاع غزة، ويزيد معه العبء على المقاومة، عليها أن تدبّر أمرها ذاتيًا من حيث الحصول على سلاح يمكنها من الاستمرار في القتال طويلًا، وتوفير الدعم اللوجيستي لأفرادها، وعدم التفريط في إدارة شؤون الناس، في ظلّ الأهوال التي انهمرت بعد يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول.

وإذا كان صمود المقاومين يكمن في قدرتهم على مواصلة القتال بالكفاءة نفسها، فإن صمود الشعب يتمثل في التكيف السريع مع ظروف قاهرة، وإدارة كل فرد، أو أسرة، أو عائلة، حياتهم اليومية بما لا يُمكّن المحتل من تحقيق هدفه في تهجير سكان القطاع، أو تحقيق انتصار على المقاومة، ثم تحديد من يدير شؤون أهل غزة بعد أن تضع الحرب أوزارها.

هكذا صار كل يوم جديد يمثل فصلًا قاسيًا في عملية تعبئة الموارد النفسية والمادية التي تمكن الغزيين من تجاوز المحن المتواصلة، بعد تشريدهم من بيوتهم، والإفراط في قتلهم، وشنّ حرب معنوية ضدهم، ومحاولة بث الفرقة بينهم، وإزاحتهم إلى النقطة التي يعلنون عندها ضجرهم وضيقهم وتبرمهم، ثم استسلامهم في النهاية.

استعان الغزيّون بذاكرة محتشدة بالمواقف والصور المؤلمة، ألفوها على مدار الحروب السابقة، وعركوها جيدًا في سنوات الاحتلال التي امتدت نحو أربعة عقود، ثم بالخبرة اليومية المتجددة في ظل الحرب الراهنة، التي لم يشهدوا لها مثيلًا من قبل، والتي فرضت عليهم التعامل مع التفاصيل الصغيرة للحياة على أنها شيء جوهري وثمين، وليست مجرد وقائعَ عابرةٍ، وأيامٍ ضائعة، مثلما يعيشها غيرهم في شتى أرجاء العالم.

استنهض الغزيون قدرة البشر على التكيف مع الألم عند حده الأقصى، ثم تحويل المشكلة إلى فرصة، والتحدي إلى استجابة، والمحنة إلى منحة، والمأساة إلى ملحمة، واليأس إلى رجاء. وتطلب هذا منهم أن يعتنوا بإدارة الشأن اليومي، كأن كل يوم هو الحياة بكاملها، وأن يعترفوا ويقروا بأن دفع الثمن الباهظ هو جزء أصيل من العيش، وأنّ عليهم أن يعتبروا ما هم فيه ليس استثناء عابرًا، إنما قاعدة حياتية مقيمة، وكأن هذه هي الحياة الطبيعية، التي عليهم أن يحيوها، مادام أن وقف القتال ليس بأيديهم.

وتبرهن بعض التدابير اليومية البسيطة على تحقيق القدرة على هذا التكيف، فصار أهل غزة ينتجون كل يوم جديدًا في مسار التحايل على العيش، ويعرضون، بشكل عفوي، صورًا لذلك أمام عيون العالم كله، ولا سيما أمام إسرائيل، التي راهنت طويلًا على تفريغ حياة أهل غزة من كل أسباب التمسّك بها، بعد تدمير كل هذا العدد من المباني، وضرب البنية التحتية، من خزانات المياه، والمخابز، والمستشفيات، والموارد غير المادية مثل: المدارس، والجامعات، والمساجد، والكنائس.

في إدارة الشأن اليومي وفق الإمكانات المتاحة، رأينا مدرّسين يصرون على مواصلة تعليم الصغار، وسط البيوت المدمرة، وخيام الإيواء المعلقة في مساحات فارغة غير آمنة، وبأدوات بسيطة، كانت موجودة في الحياة التعليمية قبل قرنين من الزمن. فالتلاميذ يفترشون الأرض، والمعلم يكتب الحروف والأرقام على سَبّورات مسنودة إلى أحجار أو معلقة على جُدر متآكلة. وعلى التوازي، رأينا مَن جمع الصغار في كتاتيب لحفظ القرآن الكريم.

ورأينا نسوة يسارعن إلى بناء أفران الخبز البسيطة، التي كان يعرفها الريف العربي قبل عقود من الزمن، تعتمد على الحطب وقودًا. وهكذا أيضًا يتم إنضاج الطعام، ليجد الناس ما يسد رمقهم. ورأينا صغارًا يقفون أمام أماكن توزيع الطعام وكل منهم يمسك آنيته ليأخذ فيها أي شيء تأكله أسرته، وكذلك أمام صهاريج الماء. ورأينا صيادين يغامرون بالتقاط أرزاقهم من البحر المسكون بزوارق القتل الإسرائيلية، وفلاحين يصرون على مواصلة الزراعة لإمداد الأسواق بأي شيء من الخضراوات والفاكهة.

ورأينا نساء أخريات يجلسن إلى ماكينات الخياطة لتفصيل ملابس لذويهن، أو يمارسن دورهن التقليدي في التهدئة من روع الصغار، أو مواصلة التعبير عن الرضا بفقدان أولادهن، رغم أن الألم يعتصر قلوبهن.

ورأينا أستاذ موسيقى يصنع نايًا من خراطيم بلاستيكية، وينفخ فيه ليخرج موسيقى لافتة، يُسرّي بها عن النفوس المكلومة. ورأينا قبله الرجل الذي اشتهر في العالم كله باسم “روح الروح” يدور على الخيام ليوزع ألعابًا بسيطة على الأطفال، ويجلس إليهم يلاعبهم، ويقصّ على مسامعهم الحكايات.

ورأينا صيدلانيًا هُدمت صيدليته، يرتّب أدويته في كوخ تكاد تهزّه الريح، ليس أكثر من أحجار رصها بعناية، ويضع في مقدمته لافتة مكتوبًا عليها “صيدلية الدكتور إبراهيم”. ومثله رأينا أطباء، يستعملون إمكانات متواضعة في إسعاف مصابين بجروح بسيطة، وآخرين يجرون عمليات جراحية معقّدة في البيوت بلا مخدّر.

ورأينا رجالًا يتعاونون في نصب الخيام في العراء، معتمدين على أدوات بسيطة، تعينهم على إقامتها كي تأوي إليها الأسرُ المشرّدة، وغيرهم يتعاونون في حفر قبور جماعية يرصون فيها مئات الجثث لموتى مختلفي الأعمار، ثم يهيلون عليها التراب، داعين للراحلين بالرحمة والسكينة، واللحاق بقوافل الشهداء في جنة الخلد.

ورأينا رجالًا آخرين يسارعون إلى دخول بيوتهم المتضررة قليلًا، حتى في شمال غزة، يرممون شروخ الجدر، ويسوون الأرضيات على قدر الاستطاعة، ويعيدون ترتيب ما تبقى من أثاث، كي تعود صالحة لأي عيش في قادم الأيام.

ورأينا حفلات عرس بسيطة تُقام بين الخيام، لا يبحث فيها أهل غزة عن فرحة عابرة فقط، بل أيضًا يعلنون ولاءهم للقاعدة التي رسخوها على مدار عقود من الزمن والتي تقول: إن “أقوى سلاح هو رحم المرأة الفلسطينية”. على النقيض، رأينا النسوة يمارسن دورهن التقليدي في مواساة كل من فقدت ذويها. ومن قلب الأعراس والمآتم تنتج القريحة الفلسطينية الثرية الجديد من الأغاني والتعديد.

هذه الأفعال اليومية البسيطة، وغيرها الكثير، تشكل تفاصيلها المعنى الحقيقي لـ “ثقافة الصمود”، وتقدم للإنسانية كلها درسًا بليغًا وتجربة عميقة، لا يمكن أن تسقط من ذاكرة المنشغلين بهموم الناس، ومعهم أولئك المعنيون بالبحوث الاجتماعية والنفسية والأنثروبولوجية، أو بالتجليات الروحية، وكذلك من المتحمسين للدراسات الثقافية، التي ترى في اليومي والاعتيادي تعبيرًا حقيقيًا عن ثقافة البشر.

شاهد أيضاً