نجاح تكتيكي بالغ الوضوح، وفشل استراتيجي أكثر وضوحاً. هكذا هو تقييمي لعمليات الاغتيال والتصفية التي برعت فيها إسرائيل منذ سبعة عقود، في محاولاتها العقيمة لحسم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإسدال الستار على القضية الفلسطينية العادلة ومناصريها.
بلغت هذه المحاولات الإسرائيلية ذروة جديدة ليلة الثلاثاء/ الأربعاء، وبفارق ساعات قليلة، نجحت أجهزة الأمن والإجرام الإسرائيلية، وذراعها التنفيذي، في اغتيال القائد العسكري في حزب الله اللبناني، فؤاد شكر، في العاصمة بيروت، وفي معقل قيادة المقاومة “الضاحية”، ثم اغتيال القائد إسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في العاصمة الإيرانية، طهران، وفي بيت الضيافة الخاص بـ”الحرس الثوري” الإيراني تحديداً.
خسارة معنوية ومادية كبيرة للعمل الوطني الفلسطيني، ولمناصريه عملياً، في العمل العسكري المباشر، من جنوب لبنان إلى اليمن والعراق، وحتى طهران التي استهدفت قواعد عسكرية إسرائيلية بنحو 330 صاروخاً ومسيّرة، ليلة 13-14 نيسان/ إبريل الماضي لأول مرة.
سبق هاتين الجريمتين الإسرائيليتين، منذ طوفان وزلزال السابع من أكتوبر، مسلسل من الاغتيالات والتصفيات، كان من أبرزها وأكثرها إيلاماً، اغتيال القائد الفلسطيني، صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، في بيروت، واغتيال، (أو محاولة اغتيال)، القائد الميداني لكتائب عز الدين القسّام، محمد الضيف.
لم تبدأ إسرائيل اعتماد سياسة الاغتيالات لقيادات وكوادر العمل والنضال الفلسطيني، ومناصريهم، لا أمس ولا منذ انفجار زلزال السابع من أكتوبر. بدأت هذه العمليات الإجرامية يوم 12-7-1956 تحديداً، قبل 68 سنة، باغتيال العميد في الجيش المصري، الشهيد مصطفى حافظ، وكان ذلك بذريعة تدريب الفدائيين الفلسطينيين الأوائل في قطاع غزة، حيث أوفده الزعيم جمال عبد الناصر، (بعد أن رفّعه الى رتبة عميد)، إلى قطاع غزة، أيام كان القطاع تحت الإدارة المصرية، لتلك المهمة. وهناك التقى هو ومساعدوه مع الشباب الفلسطينيين، الذين كان بعضهم قد بدأ بتنفيذ هجمات ضد أهداف إسرائيلية، ومن أبرزهم خليل الوزير (أبو جهاد)، ومحمد الإفرنجي وحمد العايدي وآخرون.
هذا النجاح الإسرائيلي التكتيكي، باغتيال مصطفى حافظ، أنتج خسارتين استراتيجيتين لإسرائيل، على الصعيد المصري العربي، وعلى الصعيد الوطني الفلسطيني:
– الصعيد المصري: بعد 14 يوماً فقط من اغتيال مصطفى حافظ، أعلن جمال عبد الناصر، من الإسكندرية، يوم 26-7-1956، قرار تأميم قناة السويس، وطرد الحامية البريطانية من محيط قناة السويس، ووهب مصر “عيد الجلاء”، الأمر الذي أدّى إلى حبك المؤامرة البريطانية (بسبب التأميم والجلاء) الفرنسية (بسبب دعم مصر للثورة الجزائرية)، الإسرائيلية (لألف سبب وسبب)، وتم انطلاق العدوان الثلاثي على مصر، يوم 29-10-1956، الذي انتهى إلى: 1ـ خسارة بريطانيا لكل مستعمراتها شرق السويس، وخسارة اسمها المُبجّل “بريطانيا العظمى”، لتصبح مجرد الجزر البريطانية”، واستسلامها المطلق للسياسة الأمريكية، بحيث أصبحت دولة بلا سياسة خارجية مستقلة، (وآخر ما يثبت ذلك موقفها من الحرب الإسرائيلية الإجرامية الهمجية الحالية على قطاع غزة وأهله واللاجئين فيه، وهذا بعد موقفها المشين من حرب الخليج الثانية)، بالإضافة لسقوط أنطوني إيدن وحكومته. و2ـ هزيمة فرنسا في مواجهة الثورة الجزائرية، وسقوط غي موليه وحكومته، ولاحقاً الجمهورية الرابعة، وقيام “الجمهورية الخامسة” في عهد شارل ديغول. و3ـ إجبار إسرائيل على الانسحاب من كل شبه جزيرة سيناء المصرية، ومن قطاع غزة الفلسطيني يوم 15 آذار/ مارس 1957، بقرار/ أمر من البيت الأبيض والكرملين، رغم احتفال بن غوريون باحتلال سيناء وقطاع غزة، وتبجحه بالحديث عن قيام “الهيكل الثالث”. (دون أن ننسى ترافق تأديب أمريكا لإسرائيل، مع إعجاب أمريكي بالكفاءة العسكرية لإسرائيل، وبدء تثبيت دعمها القوي لها، ونسج التحالف معها، الذي تطور إلى “تحالف استراتيجي”، ساعدها ومكّنها من الانتصار المذهل في حرب حزيران/ يونيو 1967، وأنقذها من الهزيمة في حرب أكتوبر 1973، وأخرج لها مصر من معادلة أي حرب عربية يمكن أن تشن عليها).
ـ الصعيد الفلسطيني: بعد سنتين من اغتيال مصطفى حافظ، ساهم/ بادر خليل الوزير، مع الزعيم ياسر عرفات، وصلاح خلف (أبو اياد) وعبدالله الدنّان وتوفيق شديد وغيرهم، إلى تأسيس حركة فتح، وأصبح الرجل الثاني فيها، وكان واحداً من أبرز القيادات الفلسطينية الثورية، ونال عند استشهاده يوم 16-4-1988، بجدارة، لقب “أمير الشهداء”، كما سمّاه أبو عمار، ولقب “أول الرصاص، وأول الحجارة”.
هذه كانت من بين النتائج المباشرة لنجاح إسرائيل في اغتيال مصطفى حافظ: نجاح تكتيكي أكيد، وفشل استراتيجي مُدوّ.
منذ ذلك الاغتيال قبل 68 سنة إلى يومنا هذا، اغتالت إسرائيل، وأجهزتها الإجرامية، مئات القيادات والكوادر الفلسطينية في النضال التحرري الفلسطيني، وفي صفوف مناصريهم معنوياً وعملياً. من القائد الرمز ياسر عرفات، إلى زعيم ومؤسس حركة حماس، الشيخ أحمد ياسين، إلى أمين عام الجبهة الشعبية، أبو علي مصطفى، (الذي انتقمت له الجبهة الشعبية باغتيال الوزير الإسرائيلي العنصري، رحبعام زِئيفي)، إلى فتحي الشقاقي، أمين عام الجهاد الإسلامي. ومن الكوادر الفلسطينية المناضلة… حدّث ولا حرج: من غسّان كنفاني إلى سعيد حمّامي، ومحمود الهمشري، وعز الدين القلق، ووائل زعيتر، ومنذر أبو غزالة، ومأمون مريش، ويحيى عيّاش، والمناضلين في -عملية سافوي- الذين ألقت بهم جموع إسرائيلية فاقدة للحس الإنساني، من الطابق الخامس في فندق سافوي (في تل أبيب)، وغيرهم وغيرهم. فماذا كانت النتيجة؟. كانت نجاحاً تكتيكياً وخسارة استراتيجية.
على أن هذه النتائج السلبية لسياسة الاغتيالات التي تتغنى وتفتخر إسرائيل وأجهزتها الأمنية بتنفيذها والنجاح فيها لا تقتصر على من هم في صميم العمل الوطني الفلسطيني. إنها تمتد لتشمل الأكثر تضاماً وانتصاراً لشعب فلسطين ومناضليه. تصل الى الأقرب إلى شمال فلسطين: كانت “حركة أمل” وليدة التحالف والتعاون والتكامل بين مناضلي الطائفة الشيعة في جنوب لبنان، والنضال الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وعمودها الفقري، (في حينه)، حركة فتح، ثم انطلق “حزب الله” اللبناني من رحم حركة أمل، وحقق نتائج باهرة في مواجهة الإحتلال والاستعمار والهيمنة الإسرائيلية على أجزاء واسعة من لبنان، ومن جنوبه خاصة، وتولى الشيخ صبحي الطفيلي منصب الأمين العام للحزب، وعندما تخلى عن موقعه هذا جراء خلافات تنظيمية داخلية، تولى عالم الدين، السيد عبّاس موسوي منصب الأمين العام لحزب الله، إلى أن اغتالته إسرائيل يوم 16-2-1992. وخلفه في منصب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ويكاد لا يخلو تقرير أو مقال صحافي أو حوار في أيٍّ من وسائل الإعلام الإسرائيلية، من عض أصابع النّدم على اغتيال الموسوي والتسبب في تولي نصرالله، بالغ الذكاء وصاحب الشخصية الكارزماتية، ما هو فيه من موقع يقض، جديّاً، مضاجع القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية.
اغتيال الشهيد إسماعيل هنية يندرج، بالتأكيد، في خانة “نجاح تكتيكي، وفشل استراتيجي”.