أول الرصاص وأول الحجارة وأول الدولة

ياسر عرفات
بقلم: *غسان شربل

يتعب الجسد فتغويه هدأة الليل الطويل. يتعب النبض فيغادر على أطراف اصابعه. يتعب القلب فيخون. ينوء الجسد بعمر واحد فكيف يحتمل رجلاً يخفي في شرايينه شعباً من الاعمار وشلالات الرصاص وقبائل الأحلام وأوجاع المخيمات وتبرم الشرفات من فرط الانتظار. كيف يحتمل الجسد عمراً مدججاً بعيون الشهداء ومناديل الأمهات وتنهدات الزيتون وبكاء العصافير الأسيرة قبالة البحر الأسير.
وليس سراً انه كان مريضاً منذ نعومة اظفاره. وأن مرضه عضال. وانه وقع في حب دائه حتى العشق. وليس سراً انه أسير قديم. باكراً أطبقت عليه فلسطين ومذذاك سيتزوج حلمه بكل ما فيه من الأوهام والمواعيد والقنابل والأساور.
قبل أربعة عقود تسلل الى بلاده المحتلة. رأى التراب حزيناً والشبابيك خائفة والطرقات حائرة. ورأى الاحتلال يسرق القرميد ويزور الأوراق والعصافير والغيوم. كان ذلك الموعد مع بلاده حاسماً وقاتلاً. اقسم ان يستعيدها وأن يعود.
ولم يكن رجلاً عادياً. كان عاصفة جوالة. داهمت المخيمات فلمعت فيها البنادق والعيون. داهمت اليائسين فأورقت أيامهم بعد يباس. لن يرتاح ولن يترك أحداً يرتاح. سيقرع كل باب وسيغتنم كل فرصة. سيتسلل الى كل تجمع ومحفل. وفي وجه النسيان الشاسع سيرفع خريطة بلاد شطبت من الخريطة.
كان يدرك انه يرتكب حلماً ممنوعاً. وكان يدرك انه زائر متعب ومحرج. وأن العالم يفضل غسل يديه من الجريمة الشاسعة وأن يكفنها بالنسيان. وكان يدرك قصة القيود وقصة الحدود. وان قبضته تضرب جبالاً من رخام وضميراً من رخام. لكنه كان انطلق كرصاصة لا يمكن استردادها كعاصفة ترفض النوم إلا في الوادي الذي تحب.
ارتكب الرجل جريمة شاسعة. أيقظ الحلم واطلق شياطينه. بعدها ستكر المواعيد. “فتح” والرصاصات الأولى. معركة الكرامة وقيادة منظمة التحرير. وكان على العاصفة ان تقيم على شفا الوطن لتتسلل ليلاً اليه. واستضافة العواصف كاستضافة النار مقلقة ولاسعة. ولم يكن أمام العاصفة غير الغرق في مخاوف العواصم وحروبها ولطالما اضطرت الى الهجرة بحثاً عن ملاذ آخر سرعان ما يشتعل.
كانت المعارك طويلة ومريرة. وكان ياسر عرفات فيها ظالماً ومظلوماً. وفي أحلك الساعات كان يلوح بشارة النصر ويزعم انه ذاهب الى القدس. وكانت تلك صلابة الفدائي وطمأنينة العاشق المؤمن.
في غيابه سيكون المشهد ناقصاً. في غياب طائرته بدت الأجواء مقفلة ومثلها الأبواب. في غياب كوفيته سيخاف أهل المخيمات على وعد العودة. في غياب مسدسه قد يضل الرصاص طريقه. سيفتقد الفلسطينيون قائداً شجاعاً ومقاتلاً صلباً ومفاوضاً بارعاً. سيفتقدون أيضاً رباناً يجيد السباحة بين التوازنات والاشراك. يخطئ ويصيب ويصحح لكن اتجاه بوصلته لا يترك مجالاً لأي اجتهاد. سيفتقدون شجاعة من أطلق الزلزال في وجه الاحتلال ومن تجرأ على أخطر توقيع ليعيد القضية الى أرضها. سيفتقدون أسير “المقاطعة” يقتلع الاحتلال جدرانها ويعجز عن تهديم ارادته.
غاب حارس الحلم الفلسطيني على مرمى حجر من الموعد الآتي وان تأخر. لم يحلم بقصر في فلسطين. حلم بقبر في القدس. ومن عادته ان لا يرضخ للظلم. ومن يدري فقد يتسلل قبره غداً الى الأقصى.
غاب حارس الحلم الفلسطيني. غاب ياسر عرفات. وكان أول الرصاص وأول الحجارة وأول الدولة.
*(“الحياة” اللندنية 12/11/2004)

شاهد أيضاً