أدّت الغارة الإسرائيلية التي دمّرت مدرسة التابعين في غزّة يوم السبت 10 أغسطس/ آب الجاري إلى استشهاد حوالى مائة من نازحي الحرب. وهذا أحدث مثال على المنطق الذي يعمل منذ عشرة أشهر في قطاع غزّة: في ذلك السبت الأسود، بينما كان اللاجئون يتجمعون لأداء صلاة الفجر، قصف الجيش الإسرائيلي هذه المدرسة شرقيّ مدينة غزّة. وكانت، مثل معظم المؤسّسات التعليمية التي أُغلِقَت منذ بدء الحرب قبل عشرة أشهر، بمثابة ملجأ لمئات النازحين حتى حوّلتهم ثلاثة صواريخ أميركية زنة كلٍّ منها ألفا كيلغرام، حوّلت المصلين إلى جثامين ممزقة وأشلاء مبعثرة، مع ما صاحب ذلك من صور مروّعة يبدو أن العالم طبّع معها ولم تعد تثير استنكاره وشجبه وغضبه.
ليست مدرسة التابعين الأولى التي تُستهدف، ففي غضون أسبوع، قصف الكيان الصهيوني خمسة مراكز لتجمّع النازحين، من بينها مدارس، والضحايا دائماً من المدنيين، وفي كل مرّة يختلق جيش الاحتلال ذرائع مختلفة لجرائمه البشعة التي يعرف أنه لن يحاسب عليها. مجزرة مدرسة التابعين وقبلها مجزرة مدرسة النصيرات ومجزرة مدرسة العودة، ومجزرة مدرسة “العائلة المقدّسة”.. كثرت أسماء المجازر، وكل واحدةٍ تليها أخرى أبشع منها، والجريمة التي تُرتكب اليوم تكاد تجعلنا ننسى الجريمة التي سبقتها. وبشكل إجمالي، منذ بداية الحرب، تعرّض أكثر من 85% من المدارس في غزّة للضرر أو الدمار، دُمِّر أكثر من ثلثي المدارس التي كان عددها يبلغ 345 مدرسة تحول معظمها إلى أماكن للنزوح ودمّر أغلبها فوق رؤوس من لجأوا إليها، وأغلبهم من النساء والأطفال والمدنيين العزّل الأبرياء. ومنذ أكتوبر/ تشرين الأول، قُتل أكثر من 18 ألف طفل في غزّة. وبالنسبة إلى منظمة إنقاذ الطفولة غير الحكومية، يمثّل الأطفال 43% من ضحايا هذه حرب البشعة التي تعدّ أطول وأفظع إبادة جماعية في التاريخ المعاصر.
استهداف المدارس وقبلها المستشفيات، وتدميرها، لا يهدفان فقط إلى تذكير الغزّيين بأن لا مكان آمناً ولا أحد آمناً داخل القطاع، بل يهدفان إلى إيصال عدة رسائل بأن لا مستقبل للناجين على أرضهم بعد اليوم، وأن لا حل لهم سوى هجرة أرضهم، لأن من يقصف المستشفيات ويدمّرها يريد أن ينهي الحياة، ومن يقصف ويدمر المدارس يستهدف المستقبل، ويكفي أن الاحتلال حرم أطفال غزّة وتلامذتها وطلابها الدراسة عاماً كاملاً، حكم فيه على أجيال من الغزّيين بمحوه من تاريخهم ومن تكوينهم ومن حياتهم.
منذ بدأت إسرائيل حربها العدوانية على غزّة، قتل جيشها بشكل عشوائي أزيد من أربعين ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وأصاب نحو مائة ألف. وأكبر عدد من ضحايا هذا العدوان البربري استشهدوا وأصيبوا داخل مراكز للجوء، سواء مستشفيات أو مدارس أو مخيّمات لجأ إليها النازحون يلاحقهم قصف الجيش الصهيوني وهجماته المستمرّة منذ أكثر من عشرة أشهر بلا توقف ولا رحمة أو شفقة، وأمام مرأى العالم وسمعه، وفي اختراق سافر لكل القوانين والأعراف الإنسانية والدينية والأخلاقية.
الواضح من خلال كل هذه الجرائم البشعة التي يرتكبها جيش الإحتلال قتل أكبر عدد من الفلسطينيين وترك من نجوا من القصف يموتون ببطء جوعاً أو بفعل الأمراض التي تفتك بهم، ودفع من تشبث بالبقاء فوق أرضه إلى حافّة اليأس. ما ينفذه الكيان الصهيوني على أرض غزّة هو ما سبق أن أعلنه عتاته عشية شنّ عدوانهم على القطاع، أي تهجير سكّانه وتنفيذ تطهير عرقي على مراحل، وبطريقة أصبح العالم يطبّع معها تدريجياً. الحقيقة الساطعة من وراء كل هذه الجرائم أن الكيان الصهيوني ماضٍ في تنفيذ مخطّطه الاستعماري الاستيطاني الاحتلالي الذي بدأه منذ أكثر من 75 سنة. ومع توالي السنوات والعقود، يصبح التنفيذ سريعاً وعلنياً وأكثر بشاعة، لأن إسرائيل ألفت أن تضع نفسها فوق القوانين بفضل حماية الأنظمة الغربية “الديمقراطية” التي تجعلها دائماً تفلت من العقاب على جرائمها، مهما كانت مروّعة وبشعة وغير إنسانية.
لكن مهما بلغت درجة بشاعة هذه الجرائم، لا يجب أن تخفي الحقيقة الساطعة، أن إسرائيل التي صدرت ضدّها فتوى من محكمة العدل الدولية في لاهاي تصفها بأنها دولة احتلال، قد آن الوقت لأن يصنّفها المجتمع الدولي دولة مارقة، والكفّ عن إيجاد التبريرات الكاذبة والمخادعة التي تختبئ وراءها للإفلات دائماً من جرائمها البشعة. إسرائيل هي اليوم آخر دولة استعمارية، والاستعمار الإسرائيلي أبشع أنواع الاستعمار، لأنه لا يهدف فقط إلى احتلال الأرض والسيطرة على سكانها، بل أيضاً إلى ابتلاع الأراضي التي يحتلها وتطهيرها من سكانها، ليس فقط بطردهم منها، بل أيضاً إبادتهم فوقها. وهو أيضاً أكثر أنواع الاستعمار رداءة، لأنه يقوم على عقيدة صهيونية دينية تشكل اليوم أكبر خطر في المنطقة وعليها، وإذا لم يستيقظ العالم وينتبه إلى الخطورة التي تمثلها هذه الفاشية الجديدة، ويجعل هذا الكيان العنصري المجرم مقاطعاً ومنبوذاً، مثل جنوب إفريقيا في عهد الأبارتهايد، لن يبقى خطرها محصوراً فوق جغرافيا فلسطين التاريخية، بل سيؤدّي بالعالم إلى حرب عالمية مدمّرة.