لطالما تركت زيارات القادة أو كبار الضباط إلى البلدات الإسرائيلية المتاخمة للحدود الشمالية انطباعاً بصرياً جيداً، وقد كان رؤساء الحكومات، ووزراء الدفاع، ورؤساء هيئة الأركان، وقادة الألوية يعلمون هذه الحقيقة، ولطالما اهتم هؤلاء بدعوة كاميرات الصحافة إلى جولاتهم المنظمة، فوجود جبال الجليل الدراماتيكي في خلفية الصور، والقرى والبلدات الواقعة وراء الحدود، وخط النقاط العسكرية التابعة للجيش الإسرائيلي، وسهل الحولة الممتد من الشرق، يُعد ديكوراً مثالياً في الخلفية، لصورة يرغب فيها القادة والزعماء.
هل تعرفون موضة معاطف الـ “يونيكولي” السوداء التي يرتديها القادة؟ قبل أربعين عاماً، تمثلت الموضة في ملابس “battle dress” [نوع من الملابس الشتوية العسكرية، يتكون من قطعة واحدة، راج استخدامها إسرائيلياً، في سنوات السبعينيات والثمانينيات، وخصوصاً في صفوف الجيش وأعضاء الكيبوتسات، في إحالة بصرية للجندي وعضو الكيبوتس الذي لا يُقهر في شتاء الضفة الغربية أو برد الجليل]، وهذه الملابس القماشية السميكة والخشنة تم إنتاجها لدى اندلاع الحرب العالمية الثانية، وانتقلت إلينا بعد سنوات عديدة.
وتختلف المعاطف والأزياء التي يرتديها هؤلاء القادة لدى زيارتهم إلى بلدات الشمال، لكن التصريحات تظل شديدة التشابه: “سنسحق العدو”، و”سنهزم حزب الله”، و”سنقضي على ’الإرهاب‘”، و”سنقضي على التهديدات الآتية من الشمال”، إنها صرخات المعركة نفسها، والتبجح ذاته، والوعود عينها. إنها الثقة بالنفس ذاتها (على الأقل، الثقة الظاهرية بالنفس)، وكذلك الانطباع نفسه الذي يتركه هؤلاء، بأن كل شيء يعتمد عليهم. لطالما تبجح هؤلاء في جولاتهم قائلين إن علينا فقط أن نقرر إذا ما أردنا “إعادة لبنان إلى العصر الحجري”، وهنا، عليّ أن أعترف بأنني، حتى في ذلك الوقت، لم أكن مبهوراً حقاً بتلك التصريحات، فكم حريٌّ بي ألاّ أصدقها اليوم، ولماذا؟ فلنقل إنها مسألة خبرة بهؤلاء.
ربما يكون البعض قد نسي، لكن في الماضي، كان هناك حزام أمني داخل الأراضي اللبنانية، حيث قاتلنا كتفاً إلى كتف مع مقاتلي جيش لبنان الجنوبي ضد حزب الله وباقي المنظمات “الإرهابية” التي وجدت حضناً دافئاً لدى جارتنا الشمالية. وقد تكررت دائماً الحوادث التي يلمح فيها جنود جيش لبنان الجنوبي هيئات مشبوهة لأشخاص يتسللون في الليل، فيقومون بإطلاق النار نحوهم، وبعد ذلك بوقت قصير، كنا نشهد إعلاناً يُنشر في إحدى وسائل الإعلام التابعة لحزب الله بشأن “جريمة قتل مدنيين نفذها العدو الصهيوني”، وكان انتشار خبر كهذا هو الإشارة التي تتلقاها عائلتي، فتستدعي عقد اجتماع عائلي، لكي نقرر معاً إن كان علينا أن ندخل الملجأ لبضع ساعات، أو أن نصعد إلى سيارتنا وننتقل جنوباً أو شرقاً، خارج الحدود المعروفة للقطاع المستهدف؛ فكان يمكننا الذهاب بالسيارة إلى “كفار بلوم” أو مفترق “جوما” أو أن نقترب حتى من الحدود حيث بلدة المطلة، على مسافة بضع دقائق من المنزل، وأن نتجول هناك من دون خوف أو وجل. وكنا ننتظر القصف، الذي كان عادة لا يتأخر في الوصول، على الرغم من أنه لم تكن هنالك مسيّرات، أو صواريخ مضادة للدروع، أو ذخائر خاصة لدى الحزب في ذلك الوقت، كما لم تكن لدينا بطاريات قبة حديدية. مهما يكن من أمر، فقد كانت الصواريخ تحط في مدينتنا [كريات شمونة]، وكنت أقضم أظافري وأنتظر أن يرن جهاز النداء [Beeper] في انتظار إعلان انتهاء تلك الجولة من التصعيد، لكي أتمكن من القرار إذا كان عليّ أن أترك المدينة لبضع ساعات أم لا. ولم نكن في تلك الأثناء في حاجة إلى مجلس حربي أو أوامر صادرة عن قيادة الجبهة الداخلية، أو إلى أي توجيهات أو تقديرات مواقف أُخرى. كان نصر الله هو من يدير حياتنا، وكانت قواعد اللعبة معروفة بالنسبة إلينا.
وها نحن نعيش حرباً مع حزب الله على امتداد 10 أشهر، وعليّ الاعتراف بأنها حرب غريبة إلى حد ما، وهي حرب بدت، حتى هذا الأسبوع، كما لو كانت معركة بين ملاكمَين، يضرب كل منهما الآخر بدوره، لكنّ كلاً منهما يحترس من توجيه الضربة القاضية إلى خصمه، وكما لو كان على كل منهما أن يظل واقفاً على قدميه وأن يواصل إطلاق التهديدات.
على مدار 10 أشهر، خلت منازل عشرات الآلاف من المواطنين في الشمال، وتحول قطاع كامل من البلد، عملياً، إلى منطقة عسكرية مغلقة، ودولة إسرائيل، بجميع قدراتها العسكرية والاستخبارية، تلاقي مصاعب جمة في مواجهة حزب الله. ويمكن للمرء أن يجادل بشأن نجاح إسرائيل في حربها في مواجهة “حماس”، لكن أكثر الناس تشاؤماً سيعترفون بأن الآلة الحربية لحزب الله لا يوجد تشابه بينها وبين الآلة التي خططت ونفذت “مجزرة” 7 تشرين الأول/أكتوبر.
انظروا إلى ما حققناه في القطاع، انظروا إلى عدد القتلى هناك، والأنفاق المدمرة، والأسلحة التي تبددت، والشحنات التي تم تدميرها، والقادة الذين تمت تصفيتهم، والأرض التي تم الاستيلاء عليها، وعلى الرغم من هذا، فإنه لا يزال بعضنا يجادل في حقيقة أن هذا كله قد شل “حماس” تقريباً، لكن حينما نتحدث عن حزب الله، فإن علينا هنا أن نعترف بأنه على الرغم من مقتل عدة مئات من صفوف ذلك التنظيم، وعدد المسؤولين الذين تمت تصفيتهم، فإنه ما من أحد هنا يصدق ولو للحظة أن منظمة نصر الله، حتى بعد كل ما حدث مؤخراً، باتت على شفا التفكك.
ربما فوتنا فرصة للتحرك الشامل في الماضي ضد حزب الله، وربما ستلوح فرصة كهذه في المستقبل، ولعلها تلوح في المستقبل القريب، لكن من يتحدث الآن عن سيناريو لإنهاء الحرب، ليس عليه أن ينظر إلى غزة أو القدس أو واشنطن، فمن يرغب بذلك، عليه أن يشخص ببصره إلى بيروت.
وقد قال حسن نصر الله، أكبر أعداء إسرائيل في القرن الواحد والعشرين في بداية الحرب، إنه سيواصل توجيه الضربات إلينا إلى أن يتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، وفرض علينا القواعد عملياً، وهو الآن يلتزمها أيضاً. إن عشرات الآلاف من البشر المهجرين من الجليلين الأعلى والغربي يعرفون جيداً كيف ستتم الأمور في هذه المرة أيضاً؛ ليس عن طريق إعلان احتفالي بالنصر تطلقه دوائر صنع القرار السياسي في تل أبيب، ولا إعلان صادر عن الأمم المتحدة، ولا عبر الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام، إنما سنعود إلى منازلنا في الشمال فقط بعد أن يعلن نصر الله أن هذه الجولة قد انتهت بالنسبة إليه.
كيف يمكن للمرء أن يعيش حياته، أو يخطط لمستقبله، حينما يعتمد في ذلك على مخططات وأهواء أحد “الإرهابيين”؟ هذا هو السؤال الذي يجب على دولة إسرائيل أن تطرحه على نفسها، وتحاول الإجابة عنه بصدق هذه المرة. وإلى ذلك الحين، سيواصل نصر الله اتخاذ القرارات بالنيابة عنا.
مناحيم هوروفيتس – قناة N12